لو تتبعنا التحول في مكانة المهن لوجدنا أن مستوى الدخل هو سبب نظرة المجتمعات لبعضها نظرة دونية.
مثلا..
كان الطبخ مهمة نسائية ما لبث ان امتهنها الرجال بعد ظهور المطاعم وتوسع عادات الأكل خارج المنزل مع نمو المدن المتوسطة والكبيرة.
مع دخول المجتمعات التقليدية دائرة الرأسمالية بدأ الاهتمام باستقطاب الطباخين الأفضل ورفع أجورهم.
في الغرب صار الطباخ من علية القوم الذين يتسابق المشاهير لمقابلتهم، وبدأت الأفلام السينمائية في إنتاج افلام تتناول حياة طباخ من القاع إلى القمة.
وحتى في اليمن ارتفعت أجور الطباخين وتنافست المطاعم والشركات في استقطاب الأفضل وتقديم كل المغريات للاحتفاظ بهم... وشاهدت شبابا متعلمين يتقنون مهنة "الشيف" ويعتزون بها.
شيء مثل هذا يحدث لممتهني الكوافير النسائي.
فهذه المهنة التي كانت محتقرة في المجتمعات التقليدية تغدو اليوم أحد المهن التي قد تمنحك دخلا عاليا وبرستيجا اجتماعيا.
وكم تعاني النساء من الوقوف في صفوف الانتظار للحصول على موعد لدى مختصة الكوافير المفضلة.
واعتقد ان السر هنا يكمن في جانبين:
الجانب الأول الكسب المادي، فكلما زادت الأرباح المادية لمهنة ما نجحت في الخروج من دائرة التهميش والتحقير الاجتماعي.
والجانب الثاني هو نجاح اصحاب هذه المهنة في تطويرها وربطها باحتياجات الناس المتجددة.
سأعطي مثالين من مجتمعنا اليمني الذي كان يحمل ثقافة اجتماعية تحتقر العمل اليدوي والأعمال الفنية.
كان المغني شخصا يقبع في قاع السلم الاجتماعي ينظر لهم المجتمع كفئة متدنية لا يمكن الزواج منها.
وكان الفنان في العرف الاجتماعي مجرد "مزين" وهو اللفظ الذي كان يطلق على ممتهني الجزارة والحلاقة والغناء.
لكن مع ظهور نجوم الغناء تحولت وجهة نظر المجتمع 180 درجة، ليصبح المغني شخصا ذا مكانة اجتماعية وقائدا من قادة الرأي والمؤثرين.
وقد نظر المجتمع اليمني لمهنة التمثيل في البداية نفس نظرته "للمزاينة" ثم ما لبثت الصورة ان تغيرت ليصبح الممثل نجما يتهافت أفراد "الفئات العليا" للتعرف عليهم والظهور معهم.
وهذا يعود لتطور الغناء من مهنة عادية إلى فن رفيع ومتجدد، وإلى ارتفاع دخل المغنين إلى أرقام خيالية.
ولو أردت اليوم الترويج لقضية أو سلوك معين فإن افضل من يستطيع التأثير في المجتمع هو المغني أو الممثل، بعد أن كان الفقهاء قبل أقل من 5 عقود يفتون بعدم قبول شهادة المغني لأنه مجروح العدالة!
وقد شاهدنا كيف استطاع ملاطف الحرازي الارتقاء بفن قرع "الطاسه-الطبل اليمني التقليدي" ليصبح نجما ولترتفع دخول الماهرين من هذه المهنة.
وصار الشباب العاملين في قرع الطبول يقلدون ملاطف في تسريحة شعره وحركاته.
هناك مثل آخر ظريف ومليئ بالدلالات..
بعد هجرتنا من ريف محافظة حجة إلى صنعاء استقررنا في منطقة شعبية قريبة من سوق المواشي المركزي.
وكان طبيعيا أن يتجمع الجزارون المهاجرون من الريف مثلنا في نفس المنطقة.
وبسبب تغير العادات الغذائية لليمنيين والتحسن النسبي في الدخل منذ منتصف السبعينيات بدأ دخل الجزارين يرتفع ويصعد إلى أرقام فلكية، وبدأ المجتمع اليمني يشهد ظاهرة جديدة هي "الجزار المليونير" صاحب العمارات والسيارات والأراضي الممتدة.
وكان التناقض هنا ان "القبيلي" ظل على ثقافة الاحتقار للجزار، بينما الوضع الاجتماعي قد تغير تماما.
ومع تدهور الأوضاع سقط "القبائل" في الفقر بينما استمر الجزارون في مراكمة الثروات، واصبح النظام القديم هشا وعلى وشك أن تنقلب موازين القوة، ولتظهر نغمة افتخار جديدة عند الجزارين ان "الجزار يساوي 100 قبيلي بفلوسه".
ورغم أن القبيلي الفقير لا يزال يرفض زواج ابنته من الجزار المليونير الا أن الصورة قد تنقلب دراماتيكيا في غضون سنوات.
في طفولتي لم تكن مهنة سائق التاكسي معروفة، وتعرض أوائل من امتهنوا السواقة للسخرية، لكنها اليوم مهنة مرغوبة.
وقل مثل ذلك عن مهن المطاعم.
كان من يفتح مطعما أو كافتيريا يعتبر "مقهويا" وكانت الثقافة تتعالى على هذه المهنة.
لكن مع الارباح العالية بهذه المهنة الشريفة يحلم الكثيرون اليوم بامتلاك حتى زاوية صغيرة لبيع الأكلات.
المجتمعات تتغير..
انني أعبر عن فخري بآلاف الشباب الذين يكسرون دائرة التحريم الاجتماعي ويغيرون الصور النمطية ويخلقون ولو ببطء ثقافة احترام العمل وتقديسه.