عندما التقيت بأول رئيس للجمهورية اليمنية الراحل المشير عبدالله السلال في بيته بحي القاع في صنعاء، وبترتيب من أحد الأصدقاء اليمنيين، سألته مباشرة: أنت أول رئيس عربي سابق على قيد الحياة يجاور رئيسا قويا في عاصمته وبين أجهزته، فهل تأمن على نفسك؟
أجاب: لا أخاف أبدا لأني أعرف الرجل جيدا (يقصد علي عبد الله صالح)، ذكي ولا يغدر بأحد إذا ما أعطى كلمة، فقد بعث لي في القاهرة حيث مكان إقامتي رئيس حرسه الجمهوري ودعاني للعودة إلى وطني ووفر لي كل تسهيلات الحياة.
ثم أردفت عليه بسؤال آخر: لماذا فشلتم أنتم الرؤساء السابقين في الإمساك بالحكم بينما نجح في هذا الرئيس علي صالح؟ أجاب: يا ولدي حتى السلطة تحتاج مع الحظ إلى مواهب ومهارات وذكاء ومناورات وشجاعة، فالرجل قد امتلك كل تلك الصفات فنجح.
علي عبدالله صالح كان محقا عندما قال إن من يحكم اليمن مثله مثل من يرقص على رؤوس الثعابين، تارة يعزف لها على المزمار وتارة يطعمها!
فاليمن التي عرفتها سنوات وكنت قريبا جدا من مركز القرار وأطل على المجتمع اليمني وتضاريسه ومنعرجاته، من خلال كوني أستاذا في جامعة صنعاء، تمكنت من معرفة الكثير عن خفايا الحكم وجغرافية السلطة. وعلى الرغم من أن الشعب اليمني يتألف من القومية العربية بل إنهم أصل العرب، وكما كان يقول الرئيس صدام حسين رحمه الله بأن من ليس له جد في اليمن ليس بعربي، ورغم أن الرئيس صالح وهناك في مفاصل الحكم من الزيود الذين أستطيع أن أقول بثقة إنهم يمكن اعتبارهم المذهب السني الخامس، فهم يترضون على الخلفاء الراشدين الأربعة في كل صلاة جمعة ولا يختلفون إلا في تقدير الإمام زيد، ومع ذاك كان علي عبدالله صالح يراعي بذكائه الفطري التوازن، فوضع الشافعيين من مدينة تعز عبد العزيز عبد الغني وعبد الكريم الإرياني رحمهما الله في مواقع القيادة: الأول نائب رئيس والثاني وزير خارجية ورئيسا للوزراء لفترات متعددة، والأمين العام للحزب الحاكم، بل إنه كان -أي الرئيس- في جميع الصلاات المنقولة تلفازيا يقف كاتفا اليدين حسب المذهب السني.
فهو أدرك بأن أعداء الجمهورية هم بقايا الإمامة، ومؤخرا جماعة الحوثي في صعدة والتي انقلبت إلى المذهب الشيعي الاثني عشري. كان علي صالح عازفا جيدا على تلونات المجتمع اليمني، فأشرك الجميع في مفاصل السلطة والجيش وقيادة الحزب الحاكم، أي المؤتمر الشعبي العام.
يقول الكاتب اليمني المبدع محمد عايش في مقال له: كان الرئيس صالح بخبرته يعرف كيف يطوي السجاد القبلي من تحت أقدام الحوثي. ومن قبل أيضا كان الرئيس يعلم بثقل القبيلة في التاريخ اليمني ومن الصعوبة والتعقيد محاولة تطويعها أو إلغائها بالقوة، لأن أبرز القبائل وشيوخها الكبار كانو حلفاء للحكم الحمهوري بعد أن أذاقهم حكم الأئمة مرارة الذل والمهانة والتخلف، فكان حلفاء الرئيس الأقوياء الشيخ القوي عبدالله الأحمر شيخ حاشد، والشيخ سنان أبو لحوم شيخ بكيل والشيخ الشايف، وسواهم الكثير يدينون بالولاء لحكم علي عبدالله صالح، وهو بعقليته التي تقوم على المناورة والجذب بالإغراء والإبعاد مع عدم هدم الجسور، قد نسج أقوى العلائق مع القوى السياسية والفاعلين في المشهد السياسي اليمني، فاستوعب الجميع في وعاء السلطة، من بعثيين وشيوعيين وناصريين ويساريين، وحتى مجاميع تحن إلى حكم الإمامة، فأنتج ذلك استقرارا سياسيا واقتصاديا محمودا منذ عام ١٩٧٨ لغاية عام ٢٠١٢، حيث انطلق ربيع الإخوان المسلمين وما جرى لاحقا من انقلاب الحوثي على الرئيس الضعيف عبد ربه منصور هادي، والذي اعتبر عهده أكبر كارثة حلت باليمن.
علي صالح زعيم لن يتكرر، وطني مخلص لبلده، نشر التعليم والصحة وأقام الطرقات وأسس لدولة مدنية وأطلق حريات وتعددية سياسية وانتخابا وتنظيمات مدنية. أستطيع القول إن فترة حكمه كانت متميزة بتفرد عن كل البلدان العربية الأخرى.
في الثاني من ديسمبر، سقط الرئيس اليعربي علي عبدالله صالح شهيدا في بيته، والذي رأيته فيه مرارا في حي الكميم، شاهرا سلاحه ومضحيا بدمه ضد أعتى عاصفة هوجاء هبت على اليمن السعيد وأحالته إلى بؤر من الفقر والقتل والبؤس، بعد أن كان هذا الرئيس العروبي الكريم قد فتح أبواب بلده للعمل والعيش الكريم لكل أبناء الوطن العربي، رغم شحة موارده.
علي صالح قتله من تحالف معهم في اجل اليمن واليمنيين قبل أعدائه الذين حاربهم ست مرات، فمن يغفر للجنرال علي محسن الأحمر تنكره لولي نعمته والذي خدع الجميع حتى بزيف انتسابه لعائلة بيت الأحمر مستفيدا من مغانم السلطة، وآخرون كانو أيضا أعوان الشيطان تخلوا عنه بعد أن قربهم وأعطاهم المناصب والمزايا. ولكن هذا هو حال الدنيا تتقلب وتنقلب بوجه كل أحد، الحاكم والمحكوم. ألم يقل الشاعر أبو البقاء الرندي عن الأندلس:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
سيبكيك أهل اليمن دهرا أيها الرئيس الشهيد والزعيم الألمعي، ضحيت لأجلهم وتركوك وحيدا في صنعاء، ولكنك كسبت المجد واكتسبوا العار.
* كاتب وأكاديمي من العراق، أستاذ القانون والنظم السياسية في جامعة الأخوين في أفران المغربية