[تعد جماعة الحوثي المستفيد الأكبر من حال اللا حرب واللا سلم واستمرار الهدنة دون الإعلان عن قبولها]
في ظل الاختلال الراهن بين قدرات الحوثيين وعجز "المجلس" صار من المحتم وطنياً التفكير في مسار يسمح بتثبيت الهدنة ثم تطويرها، إذ إنه من الناحية السياسية ما عاد ممكناً إعلان موت الهدنة رسمياً رغم أنها دخلت في حال غيبوبة قد تستمر فترة طويلة، خصوصاً أن المزاج الإقليمي صار غير مهيأ للمشاركة في أي معارك عسكرية، ويرغب في التركيز على الأوضاع الداخلية تنموياً واقتصادياً بعد سنوات من الانشغال والإنفاق.
وللتذكير، فقد كان البيان الذي صدر في السابع من أبريل (نيسان) الماضي عن المشاورات اليمنية - اليمنية في الرياض واضحاً في مفرداته عند الحديث عن الحرب اليمنية، مؤكداً أن العمليات العسكرية أثبتت فشلها في تحقيق الأهداف التي أعلن عنها فجر 26 مارس (آذار) 2015، كما أن المجتمع الدولي لم يعد يستسيغ فكرة اندلاع الحرب الشاملة في ظل انشغالاته في رقع جغرافية يخشى عدم التحكم في تمددها وخروجها عن نطاق السيطرة الكلية.
ورغم انتهاء الهدنة رسمياً في الثاني من أكتوبر (تشرين الأول) 2022، فإن الواضح هو الالتزام النسبي ببنودها، ويدرك الجميع أن الطرف المحلي الوحيد القادر على إشعال المعارك مرة ثانية هو جماعة الحوثي، وهي في الوقت نفسه المستفيد الأكبر من حال اللا حرب واللا سلم، ومن استمرار الهدنة دون الإعلان عن قبولها، وليس ذلك مفاجئاً لأنهم جنوا فائدة كبيرة بحصولهم على فترة استرخاء زمنية طويلة استغلوها في ترتيب صفوفهم ربما تهيئة لجولة جديدة من الدمار لا تزال احتمالاتها واردة.
لكن، يجب أيضاً الإشارة إلى أن المواطنين في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين يعيشون مرحلة هي الأكثر هدوءاً بعد سبع سنوات من الرعب والقلق، وهذا لا يعني مطلقاً أن الطرفين قد أوفيا بكل التزاماتهما الأمنية والعسكرية، بما في ذلك فتح المعابر في تعز وغيرها من المناطق، وفي الوقت نفسه عجز "المجلس" عن إثبات قدرته على تحسين الأوضاع في المناطق، التي لا تخضع لسيطرة الحوثيين، بل ولم يتمكن حتى من عقد اجتماعاته بصورة منتظمة، ولا الوجود في مقر الحكم المؤقت بعدن.
حين أتحدث عن فكرة مسار آخر يعيد الهدوء إلى الحياة اليومية بصورة شبه طبيعية، فلأن عودة الاستقرار إلى البلاد هي الهدف الرئيس للهدنة، وصولاً إلى وقف الحرب، ثم بلوغ العملية السياسية المنشودة، ولما كان تجاوز هذه المراحل لا يلوح في الأفق، يصبح من الحيوي والملزم أخلاقياً ووطنياً أن يجري التفكير في التعامل مع الأمر الواقع المعاش والبحث الجاد في تطويره رحمة بالمواطنين، الذين يعيشون ظروفاً قاسية، محرومين من كل سبل الحياة الأساسية الكريمة، لأن الطرفين عاجزان كلية عن تقديم الخدمات ودفع المرتبات في مناطق نفوذهم، وهي المهمة الدستورية والوطنية الحقيقية لأي سلطة تزعم تمثيل الوطن وحكم المواطن في كل الرقعة الجغرافية التي تسيطر عليها، وحيث إن الطرفين فشلا في تقديم نموذج ينشده الناس يصبح أمراً ضرورياً التفكير في معادلة جديدة. وحين أطرح هذه الفكرة فإني لست في موضع القاضي، الذي يصدر أحكاماً ملزمة وناجزة، إنما هي مجرد أفكار يمكن بحثها أو إهمالها.
إن النتيجة النهائية التي فشلت كل الأطراف في التوصل إليها منذ سبتمبر (أيلول) 2014 مروراً بمارس 2015 وحتى هذه اللحظة، هي استعادة نشاط مؤسسات الدولة كي تقوم بواجباتها الوطنية بموجب دستور يحترمه الحاكم أولاً، وفي ظل قوانين تطبق على الجميع، ولما كان هذا الفشل فاضحاً وأصبح واقعاً معاشاً باعتراف الجميع، أضحى المطلوب اليوم طرح فكرة تثبيت الأمر الواقع باتفاق غير مكتوب.
وأقصد هنا أن تصبح كل سلطة أمر واقع مسؤولة عن تأمين المنطقة، التي تتحكم فيها وتقديم كل الخدمات التي يحتاجها الناس أمنية ومعيشية. أي بمعنى أكثر جلاء أن تدار مناطق البلاد محلياً من قبل السلطات التي تتواجد فيها.
علينا الاعتراف بأن المناطق الواقعة تحت السلطة المعنوية لـ"المجلس" والحكومة تدار بعيداً عنها من السلطات المحلية، ولا يضيف لها المركز المؤقت في عدن إلا ما يرسخ الأوضاع فيها بإصدار قرارات تضفي الشرعية على سلطات الأمر الواقع فيها، وهكذا يصير المركز السلطة الأضعف والأقل تأثيراً ونفوذاً.
وعليه، فالمشهد الذي نواجهه الآن، هو نشوء كانتونات بطريقة غير منتظمة تكرس سلطات عدة تسهم في مزيد من التشظي، وجعل البلاد معرضة لما يتجاوز ما حدث، وما زال يحدث في الصومال التي كان كثيرون يحذرون من السقوط في نموذج مماثل له، وإذا ما جرى قبول التفكير بواقعية سيصبح من الضروري تقنين المسألة، وسيكون التعامل مع هذه الفكرة إقراراً منطقياً بما يحدث على الأرض، ويتجسد يومياً أمام أعين الجميع، ولا بد من أن يتزامن مع هذا الاتفاق فتح كل الطرقات في عموم البلاد، وترتيب دفع المرتبات في كل المناطق، وهي إجراءات ستسهم في استعادة تدريجية للحياة اليومية الطبيعية.
يعرف الناس أن الحوثيين يمارسون سلطتهم منفردين في مناطق وجودهم، في حين أن "المجلس" والحكومة لا يمتلكان ما يكفي من الإمكانات والإرادة والانسجام لخلق بيئة تسمح بقيادة مرحلة الاستحقاقات الوطنية الكبرى، وفشلوا في خلق صيغة وطنية جامعة وجاذبة، وما زالت طريقة إدارة الشأن العام غارقة في الشكليات، ولم تتجاوزه إلى الانخراط والغوص في التفاصيل التي يجب حسمها بسرعة.
كما لا يجوز مطلقاً استغراق الوقت والجهد واستنزاف المال العام من دون ظهور خطة عمل جادة ومقنعة ووضع تصورات لكل المراحل المقبلة، فقد مرت ثمانية أشهر على تعيين "المجلس" دون أن يشعر الناس بأي تغييرات إيجابية في أسلوب الحكم، ولم تعرض عليهم صيغة المعالجات المقترحة للقضايا الكبرى، وليس كافياً ولا مفيداً هذا السيل من البيانات والصور واستجداء الدعم الخارجي قبل إظهار الحزم والجرأة والنزاهة لترتيب الأوضاع المؤسسية بعيداً من المداراة والمجاملات.