المتعمق في تاريخ اليمن يلاحظ جلياً أن اليمنيين على مدى القرون السابقة خاضوا ملاحماً من النضال المستمر ضد الإمامةِ مشروعاً وأشخاصاً، ولم يتيحوا لهذا المشروع وحملته السيطرة على على البلد أرضاً وشعباً ومقدرات، والسبب الرئيسي يرتكز على أن الأفكار والمنطلقات الإمامية لا تتواءم بالمطلق مع عزة اليمني ورفضه أن يكون ذليلاً أو منقاداً لمن يعتقد أن عرقه أو سلالته لها الحق بالحكم والتحكم دون بقية الناس ، كما أن أصالة وعراقة الانسان اليمني الذي شيّد حضارة وصل صداها للعالم تمنعه من أن يستسلم لفكر طارئ ودخيل لا يقره عقل ولا نقل.
لقد بدأ مشوار النضال اليمني الاطول ضد الإمامة متزامناً مع ورود هذا الفكر المتطرف إلى اليمن في القرن الثالث الهجري على يد الرسّي خلال مرحلة ضعف الدولة العباسية ، وهذا الوافد أفنى حياته يحارب القبائل ليحكم وما استطاع ، لكنه استطاع أن ينشر الفوضى ويصنع جيشاً واتباعاً من "المتفودين" وبهم أوغل قتلاً ونهباً وتدميراً ، بالمقابل كان الجغرافي والعلامة اليمني أبو الحسن الهمداني (280_336هـ) يؤسس لحملة تنوير ونضال ضد هذا المشروع ، وتوالى الائمة بعد (الرسّي) يحاولون سلب اليمن من أبنائها فمنهم من حكم قرية واحدة ، وآخر حكم قبيلة وثالث بضع مدن ، وتقوقع اكثر حكامهم في صعدة المدينة أو ريفها ليحاربوا بقية المناطق والقبائل من هناك ، وكلما ضعف اليمنيون أو تفرقوا استغل الاماميون هذا الضعف للتوسع والسيطرة لكن ما يلبث حكمهم أن ينكمش بمجرد أن تعاود حركة النضال اليمنية بالظهور .
طوال القرون التي حاول فيها الاماميون سلب اليمنيين حقهم في الحرية لم تنطفئ جذوة النضال اليمني وانما ظلت متقدة في كل جولة من جولات الصراع اليمني/الامامي ، فنجد في الطريق الأطول أسماء لامعة كـ "نشوان بن سعيد الحميري ، والمطرف الشهابي ، ومحمد بن إبراهيم الوزير ، ومحمد بن إسماعيل الأمير ، والحسن بن أحمد الجلال ، ومحمد بن إسماعيل الشوكاني" ، وكلهم تجمعهم راية مقاومة الامامة ورفض سيطرتها وإن اختلفت قناعاتهم الفكرية أو المذهبية .
اعلن الإماميون عن قيام دولتهم رسمياً مرّتين: الأولى كانت الدولة القاسمية التي أسسها القاسم بن محمد 1598م ثم أبناؤه من بعده ، والثانية المملكة المتوكلية على يد الإمام يحيى حميدالدين ، وكلا الدولتين لم يتيسير لها حكم اليمن ، بل عاش فيها الائمة في حالة حرب دائمة مع اليمنيين ، وهذا يدحض الخرافة التي حاول الاماميون تسريبها إلى العقلية اليمنية انهم حكموا اليمن اكثر من ألف عام! ، والتاريخ يشهد انهم حاربوا وقتلوا وشردوا ونهبوا منذ أن تواجدوا في اليمن وحتى اليوم ، لكنهم لم يحكموا اليمن ، وفي أقصى تقدير حكموا سنوات معدودة ومتفرقة خلال مراحل الضعف والتشتت .
في جولتها الأخيرة وبعد أن أعلن "يحي حميد الدين" قيام دولته لم يتقبلها اليمنيون وظل لما تبقى من عمره يسعى لإخماد حركات التحرر التي تنطلق بين الفينة والفينة ، ولا يكاد الإمام يخمد منطقة حتى تنتفض الأخرى ، رغم أنه يوغلُ قتلاً ونهباً وتدميراً ، لكن الانتفاضات تتوالى وكلها تتفق على عدم قبول الإمامة وضرورة مقاومتها وإسقاطها ، وعلى سبيل المثال لا الحصر قامت انتفاضة ابناء حبيش 1919م ، وانتفاضة المقاطرة 1920 ، والزرانيق 1925م ثم جاءت ثورة الدستور 1949م لتؤسس العمل النضالي المنظم ، وتبعتها حركة 1955م ثم جائت أم الثورات 26سبتمبر 1962م لتمثل نتاجاً طبيعياً لحالة النضال المتصلة فاسقطت دولة الإمامة وأقامت الجمهورية التي حاول الاماميون الجدد اسقاطها اليوم فانصدموا بصخرة الوعي الشعبي اليمني المتكئ على هذا التاريخ النضالي الأطول والأنقى والأجمل .
في الحالة النضالية التي نعيشها اليوم ضد النسخة الأمامية المتدثرة تحت عباءة الحوثي نحن أشد احتياجاً إلى التحلي بنفس القيم والممارسات والقناعات التي تحلى بها المناضلون الأوائل من مختلف الحقب الزمانية المنصرمة، فكلهم لم يقصروا عملهم النضالي على التحرك العسكري وإنما راهنوا على هو أهم من ذلك ، واقصد بذلك نقل الناس من حالة العزلة الفكرية والثقافية التي تكرسها الإمامة ، ومقاومتها بنشر الوعي والثقافة وتعرية هذا الفكر السلالي العنصري، والتشجيع على العلم الذي يكشف حقيقة التوجه الامامي الذي لن يورق أو يزهر إلا وسط مجتمع جاهل .
لقد كان أول ما فعله المناضلون الاوائل أن فتحوا للناس نافذة جديدة يرون من خلالها من حولهم بعيداً عن الصورة التي يحاول الأماميون رسمها ، ومن هنا كانت البدايات التي أوصلتهم لإسقاط النسخ المختلفة من مشروع الإمامة البغيض ، وهذا هو المعلم الذي يجب أن لا يغيب عن بالنا اليوم ، فالفكر الامامي الذي يحاول أن يطل اليوم من جديد بكل مساوئه وخرافاته لم ولن يكتب الانتصار مادمنا مهتمين بتعزيز الفكر الوطني المقاوم والرافض لأي ارتداد عن المكتسبات التي حققها المناضلون الاوائل في الفترات الزمنية المختلفة .