بشعارات فضفاضة وتسميات عربية صنعت الكثير من أقنية الإعلام المحسوبة على العرب بالأمة العربية ما لم تصنعه مؤامرات وجيوش كل أعدائها منذ القرون الوسطى وحتى اليوم بل وستظل تمزق الجسد العربي اليوم وغدا وما بعد الغد.
قبل تعمينا ألوان أقنية الفضاء المتعدد ونتسابق على نصب متاريسها على أسطح منازلنا وتصادر منا الرأي بمزاعم حرية الرأي وتعبث بمفاهيمنا ومبادئنا وتنحرف بتوجهاتنا وتغرقنا في مستنقع الشذوذ السياسي والثقافي، كنا أمة تتشارك الأنين والوجع والفرح والسعادة والهزيمة والانتصار.
كان الإعلام الحكومي أو الإعلام البائس، المتهم بمديح الحاكم والمدان بنقل رسائل النظام، محدوداً ولا يرضي غرورنا وتعطشنا للحرية والانفتاح، لكنه كان يوحدنا بشرا وجغرافيا، ولا ينحرف بنا عن أهدافنا وقضايانا التي ظلت الثابت الذي لا يتغير ووجهة أحلامنا ومحور تفكيرنا ومنطلق رؤانا وتطلعاتنا، الذي لا يقبل التعدد ولا يرتهن للتصويت ولا نختلف إلا في كيفية ترجمته وتجسيده على أرض الواقع كحقيقة لا تقبل الزيف والشبهات.
في زمن إعلام الشعب المحدود كان خبراً سعيداً واحداً يبهجنا جميعا وكان نقيضه يحزن العرب من المحيط إلى الخليج.. كان الإعلام متهماً ومداناً في محكمة الفضول والجهل العربي لكن نجاحه في نقل الرسالة الحقيقية للإعلام كان يتجلى في توحد الأمة هدفاً ورؤية والتفافها حول قضاياها وفي مقدمتها فلسطين التي ظلت قضية كل العرب ولم تكن قضية الفلسطينيين وحدهم ولم يجرؤ أحدٌ على خيانتها أو اسقاطها من قاموسه السياسي والأخلاقي والإعلامي حتى سقط العرب في فوضى الإعلام المتعدد والفضاء المفتوح.
وها نحن اليوم في زمن التعدد والحرية الإعلامية والسقوط، نسقط سياسيا وعسكريا وثقافيا وأخلاقيا ونعيش الهزيمة في كل لحظة حتى تعايشنا معها وأصبحت أشبه بروتين يومي اعتدنا معايشته ومشاهدته وكأن ما تتنافس وتتسابق أقنية السقوط الإعلامي على نقله إلينا أمر لا يعنينا ولا يحدث في بلد عربي اسمه فلسطين يذبح شعبه من الوريد إلى الوريد على مرأى ومسمعٍ من العرب الذين وصلوا لمرحلة لم يفقدوا فيها الفعل فحسب بل وفقدوا القول.
ثلاثون عاما أفقدتنا أقنية الإعلام "المسخ" كل أهدافنا وقيمنا ومبادئنا وكرامتنا ومزقت هويتنا وصادرت عروبتنا وقوميتنا وحولتنا إلى قبائل متناحرة واشعلت نار الخلافات وأججت الصراعات بين الأنظمة والحكومات العربية التي لم تحرص على شيء بقدر حرصها على أن تظل الشعوب على دين ملوكها، وأمام دينها كفر العرب بعروبتهم وتنكروا لهويتهم الجامعة وانكفأ كلٍ منهم على نفسه حتى خسرنا انسانيتنا وتحولت بلداننا إلى مطمعٍ للطامعين والغزاة، وأصبحت دماؤنا بلا قيمة وما أكثر نزيف العرب في آخر ثلاثة عقود أكتفينا خلالها بالجلوس لمتابعة أقنية السقوط التي أدمنا تسابقها على نقل وجهة نظر الغزاة والمحتلين والقتلة والمغتصبين..
ثلاثة عقود من التغريب لم ترسخ هذه الأقنية في أذهان من تتحدث بلغتهم أي مبدأ عربي بقدر ما رسخت صور وأصوات ووجهات نظر جورج بوش وبول بريمر وشارون ونتنياهو وكل القتلة والتغني ببنادقهم التي تزهق أرواح الأبرياء وطائراتهم التي تمطر الشعوب العربية بالموت والدمار وصواريخهم العابرة للأفق العربي وأساطيلهم التي تستبيح بحار ومياه العرب وتصادر استقلالهم وحقهم في الحياة، وما غزة عنا ببعيد..