لم تكنِ الحروبُ أبداً في يوم من الأيام إنسانية؛ لذلك قرَّر العالم بعد الحربِ العالمية الثانية أن يكونَ متحضراً، فجاء ميثاقُ الأمم المتحدة ليؤكد حرصَه على إنقاذ الأجيال القادمة من ويلاتِ الحرب وفظائعها.
لكنه كرَّر خطأ عصبة الأمم، فأعطى خمسة أعضاء حق النقض، ليقوض بذلك إرادة الشعوب، وليصبح رهينة بيد الأقوياء، ولتصبح العدالة نسبية، ومتغيرة.
هذا الواقع القانوني يفسر لنا بجلاء موقف الغرب في غزة، وانتهاك إسرائيل للقانون الدولي، لدرجة أن وزير الدفاع الإسرائيلي استرجع مفهوم التحضر القديم (الأوروبي)، فوصف أهل غزة بالحيوانات، وأعاد للأذهان شرعنة الفقيه الإسباني فيتوريا سحق غير المتحضرين، ولو استدعى الأمر قطع الماء والكهرباء، ومنع الغذاء، وقتل الأطفال .
تذرع الغرب بحق إسرائيل في الدفاع عن النفس وفق المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة؛ فالولايات المتحدة والدول الأوروبية أفتت قانونياً بأن «حماس» اعتدت على إسرائيل، وأنها خرقت اتفاقيات جنيف، ومن حقها الدفاع عن نفسها. وهذا يعطيها الحق بألا ترد فقط العدوان، بل توسعه لمنع تكراره. وهذا تفسير مزاجي يتجاهل تمييز القانون بين أمرين: شن الحرب وإدارتها؛ فالأول يتطلب إثبات الشرعية، والثاني يتطلب الالتزام بقوانين إدارتها. فالقول إن «حماس» معتدية لدخولها أراضي إسرائيل وقتلها مدنيين وأخذها رهائن خاضع للنقاش، ومحل جدال. فحركة «حماس» تُصنَّف في كثير من الدول، كما تبدَّى في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حركة تحرُّر، ومعركتها داخل إسرائيل هي مقاومة للاحتلال، وبالتالي لم تجتَز حدوداً، وفق المادة 51 من الميثاق. لأنها لم تخرق حدوداً، بل قاومت احتلالاً، وهو مكرَّس في الميثاق تحت بند حق تقرير المصير. وحق تقرير المصير أصبح عرفياً باعتراف الدول به كممارسة، كما جاء في المادة 38 من ميثاق محكمة العدل الدولية. وتذرع إسرائيل بأن غزة كيان مستقل ولا تحتله إسرائيل، وبالتالي فإن «حماس» حركة إرهابية وليست حركة تحرر لا يستقيم مع الواقع، لأن الأدلة والقرائن تؤكد سيطرتها على منافذ غزة، والماء، والكهرباء، والسماء، والبحر؛ فغزة عملياً وقانونياً محتلَّة، وتصوير الغرب بأن إسرائيل تعرضت لعدوان فيه شيء من التلفيق الخبيث.
أما إدارة الحرب المتطلبة احترام القوانين والاتفاقيات، بالذات الإنساني منها، فلا شك أن «حماس» انتهكتها، إنما كثيراً من الاتهامات، مثل قطع رؤوس الأطفال والاغتصاب، لم تقدم إسرائيل أدلَّة قاطعة عليها، لكن بالمقابل شاهد العالم على مدى شهر خرق إسرائيل لثلاثة مبادئ في إدارة الحرب: أولاً عدم التمييز بين المدنيين والمحاربين، وثانياً تجاهل معيار المماثلة القاضي بألا تتجاوز في عملياتها المطلوب والمبرّر عسكرياً، وثالثاً معيار الحيطة؛ بأن تبذل الوسع لتقليل الخسائر في المدنيين ولا تتعرض لمستشفيات ولا للبنية التحتية المدنية. كل هذه الأمور استباحتها إسرائيل، وتصريحات زعمائها السياسيين والعسكريين، ومشاهدات طائراتها على التلفزة، علاوةً على قطعها الكهرباء والماء ومنعها الوقود والغذاء يرقى لمستوى جريمة حرب كبرى يمكن وصفها بالإبادة .