إن المتابع بدقة وفطنة لا بأس بهما لا يفوته أبدا الربط بين كل أحداث المنطقة ومتغيراتها وفوضاها السياسية، كل حدث باستقلاليته الظاهرة يرتبط بالحدث الآخر بشكل ما أو صورة ما، تدل على أن مجمل الأحداث مندرجة في منظومة مهيأة أو معدة تعود مرجعيتها بقصدية مطلقة وذكية لمتصرف واحد، أو بالأصح غرفة تحكم وإدارة واحدة هيأت كل الظروف التي أدت إلى ما صار إليه وضع المنطقة، وهي بطبيعة الحال غرفة مشتركة إذا صح التوصيف، تشترك في إدارتها أجهزة سياسية واقتصادية وعسكرية واستخباراتية تابعة لبريطانيا وأمريكا.
والتقصي الجيد لكل ماهو حاصل اليوم في منطقتنا يمكن معه الإدراك دون جدليات وفرضيات، أن كل خيوط هذه الفوضى، التي وصفتها سياسية سابقة في الخارجية الأمريكية بال(خلاقة)، تعود مرجعياتها وامتداداتها جملة كما أشرنا إلى كفين متحكمتين، الأولى بريطانية والثانية أمريكية، ولكنهما في النهاية كفان مشتركتان في جسد واحد هو جسد الاستعمار الغربي، الذي اعتقد البعض وما يزال يعتقد أنه مرتبط بأزمنة غابرة، وأنه قد أصبح اليوم نسيا منسيا..!! هذا التشارك شبه الاندماجي، ربما ما يتفق مع فكرة اللاعب الواحد على رقعة الشطرنج..
وكما أشرنا هنا وكما في الجزء الأول من هذه المقالة، فالتدقيق والتحليل الجيدان في أوضاع المنطقة، يقودان بحتمية إلى فكرة الارتباط بين أحداث المنطقة، سواء أكانت أحداثا متزامنة أو يفصل بين بعضها وبعضها الآخر فواصل زمنية، إلا أن تلك الفواصل لا تتباعد كثيرا، إلا فيما ندر.. وإذا أردنا التمثيل لذلك فإن أقرب الأحداث والشواهد تتمثل في الحرب العدوانية الشرسة التي ما تزال قائمة حتى اللحظة على غزة الفلسطينية..
فمن الالتقاء المشبوه بين قيادة حماس ومسئولين إيرانيين، والذي حدث في وقت سابق في حال من السرية، ولم يكشف إلا بعد بداية العدوان، وهو كشف في غالب الظن متعمد من قبل اللاعبين في طرفي الرقعة، ثم قرار نزع العقوبات عن إيران وإطلاق جزء من أموالها المحتجزة في بنوك خارجية وهما الحدثان اللذان تما قبل بداية الحرب على غزة ببضعة أيام، وما نتج عنه من تحييد لأطراف ما يسمى بمحور المقاومة.. ثم مرورا باستجلاب قوات لا حدود لحجمها تابعة لحلف الأطلسي إلى شرق المتوسط تحت غبار هذه الحرب المخطط لها..
ومن خيوط هذه الحرب المستدعاة بخطط استخباراتية ذات مستوى عال من الدقة والأداء، يأتي استجلاب شبه قهري ومفاجئ إلى هذه الحرب لمليشيا الحوثيين من اتجاه الجنوب بارتباط مباشر بمضيق باب المندب، وبهدف التبرير لاستكمال الاستحوذ على البحر الأحمر من جنوبه وحتى شماله.. وهنا تبرز الغاية التي كثيرا ما كانت تخطر ببال المحللين السياسيين ويحاول الأمريكان والبريطانيون نفيها وإشاحة الأنظار عنها، ألا وهي السيطرة على منافذ ومعابر المياه الاستراتيجية وفي مقدمتها مضيق باب المندب جنوبا ومضيق هرمز شمالا شرقيا..
وبطبيعة الحال لن يتساءل العارفون والمتابعون عن مبررات هذه السيطرة، سيما وأن معظم التحليلات ترى أن معظم أحداث وحروب العالم اليوم ومنها ما يحدث في منطقتنا هي حروب اقتصادية بامتياز، وعلى اعتبار ما يمثله هذان المضيقان من أهمية استراتيجية حساسة ومؤثرة في حركة الاقتصاد بين المشرق والمغرب.. وكفى أن الواقع يقول أن ما يقارب ثلث الطاقة النفطية في العالم يمر من باب المندب وحده..
منذ تأسيس ما يسمى عبثا بالدولة الإسرائيلية المحتلة لأرض فلسطين، والتي زرعت أو غرست في زمنها في المنطقة لذات الغرض الحالي، وحتى اليوم، وهذان اللاعبان في جهتي رقعة الشطرنج وأعني بريطانيا وأمريكا يديران المنطقة واللعبة كما يطيب لأطماعهما ويهيئ لتواجدهما.. وقد وصل التكتيك والتخطيط إلى أعلى مستويات الدقة، بحيث نجح الاستعمار غير الظاهر أن يحيد كل قطر عربي ويطويه على ذاته بطرق شتى، فإما بشغله بأحداث تقوضه من الداخل، أو بعقد اتفاقيات وتحالفات تجعله يقف في منطقة الحياد مراعاة لمصالحه الخاصة قبل كل شيء..
وذلك بدوره ما جعل الصورة تبدو كما هي عليه الآن من شتات قومي وإقليمي وضع كل بلد عربي بمعزل عن محيطه، ولا أكثر دلالة على ذلك مما منيت به أحداث غزة من خذلان قومي عربي، يصب في صالح المشروع الاستعماري الذي اشتغل بامتداد سنوات طوال على عزل القضية الفلسطينية عموما، وجعلها قضية لا تتجاوز الجغرافيا الفلسطينية بعد أن كانت في الماضي قضية قومية عربية ومصيرية، تعني ليس كل بلد عربي وحسب بل وكل مواطن عربي أيضا، بل وقد وصل الأمر إلى ما هو أدهى من ذلك بحيث استطاعوا عزل غزة نفسها عن محيطها الفلسطيني بعد العمل الجريء والخبيث على تجزئة القوى الفلسطينية ذاتها ودفعها عنوة إلى التنافر فيما بينها..!!