في العام 2011 لم يكن إبني محمد قد بلغ سن الخامسة بعد، لكن مشاعره إزاء ما كانت تشهده اليمن من تناقضات وتأثيراتها على نفسيته جعلته يبدو أكبر مني سناً، هذا إن لم أقل إنه بدا لي يومها أكبر من مراهقي السياسة الذين بلغوا من العمر عتيا وأكثر إدراكاً لما ستؤول إليه الأوضاع وما سنعيشه من فوضى.
كنت أعود إلى البيت مثقلٌ بالهموم وبالأوجاع، وتعب العمل وجراح ما كانت تخلفه معارك اسقاط القيم والمبادئ والأخلاق التي كانت رحاها تطحن اليمنيين في الشوارع والميادين وأزقة الحواري وتتبعهم إلى منازلهم ومقايلهم وغرف نومهم، لكن ما كنت أعود مثقلاً به سرعان ما كان يتلاشى ويصبح أمراً تافهاً عند أرى ابني محمد منزوياً في صمت وحزن وشرود وكأنه يهرب إلى عالم لا يشاركه فيه سواه.
فجأة انطفأ مشعل محمد الطفولي وازدادت حالته سوءاً ووصل لمرحلة لم يعد يسمع إلا بصعوبة أو انه لم يعد يريد أن يسمع، وتوقف عن الخروج إلى الشارع ودكان العم مسعود.. توقعت أن محمد افتقدني وأن انشغالي بمتابعة تناقضات المشهد السياسي سرقني منه فقررت أن أمنحه بعض الوقت وأن أجلس في البيت على أمل أن اتعرف على سبب ما يعيشه محمد الذي بدا وكأنه أدرك لماذا أجلسته بجانبي ففاجأني بسؤال لم أكن أتوقعه على الإطلاق.
"بابا.. صدق علي عبدالله صالح خلاص مش رئيس.. وبيجي ريس ثاني.."؟!!
فاجأني سؤال محمد بل إن وجع السؤال جعلني أشعر بفداحة الجريمة التي نرتكبها كآباء من خلال سوء تعاطينا للسياسة والخوض فيها لدرجة اشراك أطفالنا.. وعندها قلت: حمودي من قال لك هذا الكلام..؟!!
"العيال في الشارع قالوا لي ويضحكوا عليَّ.. وعمو مسعود يقلي ويضحك.. خلاص بابا ما اشتي اخرج الشارع ولا اشتي اجعل من عمو مسعود.. اجعل لي أنت لما تخرج"..
شعرت بأني طفل أمام ابني الذي أثلجت صدري ابتسامته وهو يسمع مني عبارات التكذيب التي اضطررت لاختلاقها لطمأنته وتكذيب كل ما سمعه وأوجعه من كلام.. وعندها ولغرض في نفس يعقوب قلت له: الآن اخرج أجعل لك وارجع.. وطبعاً استغليت موضوع الجعالة لأخرج للعم مسعود، الذي انفجر ضاحكاً عندما وجهت له اللوم واستغرب من تصديق محمد لما قاله.
غيرت اسلوبي في البيت تماماً وتوقفت عن متابعة قنوات الأخبار لكن حالة محمد لم تتغير وظلت كما هي وهو ما لمسته عندما سألني لماذا لا يظهر الرئيس علي عبدالله صالح في التلفزيون، وطوال ذلك العام المشئوم كانت زوجتي تطالبني من حين لآخر أن أعرض محمد على طبيب لكني كنت أرفض، لأني كنت على يقين بأن حالته المرضية نفسية وليست عضوية، وكنت أبحث عن فرصة لأذهب به إلى الطبيب الحقيقي وهو ما حدث بالفعل عندما التقينا بالزعيم في منزله وحرصت على أن يصافحه ابني محمد الذي شعرت وأنا أراه يلهو في الخيمة ويتقفز ونحن نستمع لكلمة الزعيم كأنه ولد من جديد واستعاد حيوته.
لم تمر سوى أيام قليلة على لقاءنا بالزعيم حتى تم افتتاح قناة اليمن اليوم، والتي لم تسعني الفرحة بعد ادخال التردد وأنا انادي محمد ليأتي ويشاهد الزعيم في التلفزيون وطبعا كنت أقول تعال شوف صاحبك.. وليلتها قلت لزوجتي في هذه القناة علاج ابنك فاحرصي على أن يشاهدها في غيابي، والحمد لله لم تمر سوى أيام حتى شفي محمد تماماً وعاد مشعله الطفولي للتوهج كما كان من قبل.
رحم الله الزعيم الشهيد علي عبدالله صالح وكل عام وقناة اليمن اليوم الأكثر تألقاً وتطوراً وإزدهار..