مما مضى في الحلقات الثلاث السابقة من هذه التناولة لأوضاع المنطقة العربية بما فيها ما يجري في اليمن، وهو بطبيعة الحال جزء لا يتجزأ من أهم المجريات الحاصلة ومن الاستراتيجية العامة التي يتبناها الغرب الغازي والمستعمر، يتبين لنا بوضوح أن أمريكا وبريطانيا تحديداً قد حولتا المنطقة إلى ساحة للفوضى، أو ما سمي في وقت سابق بالفوضى الخلاقة، والهادفة إلى تحقيق وتنفيذ مشروع (الشرق الأوسط الجديد)..!!
ولا تتوقف أهداف هاتين الدولتين عند ذلك الهدف أو تلك الأهداف القديمة الجديدة وحسب، بل لقد استجد ما أثار عاصفة من رد الفعل العارم هذا، وهو سحب الهيمنة المطلقة للقطب الغربي الواحد الذي سيطر على العالم لأكثر من ثلاثين عاماً، مستغلاً أوطانه وشعوبه، ومنها شعوب المنطقة العربية، التي استنزفها الغرب ونهب ثرواتها لعقود من الزمن، وشغلها عن ذلك بمثل هذه الأحداث وهذه الفوضى التي يختلقها، ولم يعد محتاجاً لأن يتبناها، لأنه صار واضح الحضور في جوهرها والتأثير المباشر في صياغتها وتفعيلها..!!
وكما أشرنا فإن الموقع الجغرافي والاستراتيجي لهذه المنطقة بكونها فاصلاً مهما بين الغرب وأقصى الشرق الذي بات جهة التهديد بسحب الهيمنة المطلقة، إلى جانب غناها بواحد من أهم مصادر الطاقة في العالم، قد جعلها هدفاً رئيسياً، بالإمكان من داخله أيضا إدارة معارك هاتين الدولتين واستراتيجياتهما وطمعهما في السيطرة شبه المطلقة على العلاقات القائمة بين أقصى الشرق والغرب وفي مقدمة ذلك الجانب الأكثر حيوية وهو جانب الاقتصاد المتبادل، والذي بات في العقود الأخيرة يصنع مشرقاً مخيفاً ويشكل تهديداً لا يستهان به..
وإذ توقن الدولتان المتعجرفتان أن تواجدهما المطلق والمهيمن في منطقة التماس الهامة هذه (الشرق الأوسط) فيه من الصعوبات ما قد يشكل عوائق لتنفيذ مشاريعها، وخصوصاً بسبب الكراهية المتأصلة منذ عصور الاستعمار والاستغلال المتوغلة في التاريخ، وأنه لابد من وجود رفض ومقاومة لهذا التواجد، فقد عمدت إلى سياسة ذكية وخطيرة تتمثل في فكرة (اصنع عدوك قبل أن يصنع نفسه)، وبنت مسرحا مناسباً وأوجدت فيه طواطم وتشكيلات خارجة على أنظمة المنطقة، تدعي معاداتها للغرب مثل طالبان والقاعدة وداعش والشباب المومن وحزب الله وحماس ثم الآن جماعة الحوثيين الإرهابية التي تدافعان بكل الممكن لتقويتها في اليمن، وهذا تحديدا ما يقف وراء ما تشهده اليمن من أزمة خانقة منذ تسع سنوات ولا آفاق مطلقاً لأية حلول يمكنها إنهاءها..!!
ولإيجاز نتيجة مسلمة لكل ما يحدث في المنطقة في مثال واحد، فإن ما تقوم به جماعة الحوثيين الإرهابية اليوم، على سبيل المثال، قريباً من مضيق باب المندب تحت شعار محاربة أمريكا وإسرائيل بوكالة من إيران (مخلب أمريكا وبريطانيا في المنطقة)، لم يكن ليحدث لولا أن أمريكا وبريطانيا تقفان من ورائه وتخططان لتواجده وتحركاته..!! فجماعة بسيطة كهذه لم يكن لها أن تستمر في تشكيل تهديد حتى للمنطقة التي نشأت فيها، لو لم تجد من يمثل ظهرا لها يكرسها ويدافع عن تواجدها ويدعم وجودها لتكون طوطما جديداً ينفذ رغبات ذلك الغرب المتوحش..
ولعل في تعامل الغرب المتهاون مع هذه الجماعة أو الطوطم المستجد، إزاء ما تقوم به من أنشطة إرهابية في المياه الدولية تمثل تهديداً إقليمياً وعالميا لحركة التجارة العالمية، وتلك الطلعات والضربات التمثيلية المزعومة ضدها والتي تقصف الفراغ، لعل في كل ذلك وسواه ما يكفي للإيضاح والاستغناء عن طرح أية أسئلة ملحة حول ما يجري في المياه العربية، وحول واحد من أهم المضايق وممرات التجارة في العالم.