كل عام يأتي شهر رمضان لكن مجيئه وطقوس استقباله القديمة اندثرت وتلاشت في وقتنا الحاضر ولم يعد منها ما يمكننا تسجيله في ذاكرة الأيام، كتلك التي عشناها قديما ونجدها اليوم تستيقظ وتصعد من أعماق الذاكرة بروعة تفاصيلها وقدسية ما كانت تجود به على اليمنيين من مشاعر انسانية ودينية تترجم علاقتهم بالله وتمسكهم بالدين الاسلامي وأخلاقياته وقيمه ومبادئه النبيلة.
في زمن الأمس النبيل وقبل أن يحل شهر رمضان على اليمنيين، كان كل شيء يشير إلى أنهم سيشهدون حدثا استثنائيا وأياما استثنائية ينتظرون قدومها بشغف وشوق، وكل ما كان عاديا يصبح فجأة غير عادي.. ملامح الطبيعة والوقت وتفاصيل الأيام ورائحة الهواء..
كل شيء يتغير وكأن الحياة بكل تفاصيلها تتجمل وترتدي حلة من عطر ونور ونقاء وتقترب لتعانق الناس وتدعوهم لقراءة البشارة في تفاصيل الوقت وأبجدية الزمن وتعلن اقتراب موعد دخولهم إلى عالم له أيامه التي يتحول فيها الجسد إلى ظل وتتجسد الروح بشراً لا ترى غير النور ولا تقرأ غير أبجدية السماء وكتاب السماء الذي أضاء الأرض بنزوله في شهر السماء.. وفي الثلاث الليالي التي تسبق رؤية الهلال كان المؤذن أو المُسبِح يحمل فانوسه ويصعد المئذنة السامقة ليلاً للترحيب بشهر رمضان وترديد الموشحات التي يتغنى فيها بفضائله وقدسية وبركة أيامه ولياليه، ويوجه له الخطاب معبرا عن اشتياق الناس وحنينهم إليه واستعداهم لاستقباله واستضافته وكأنه ليس وقتاً عابراً وانما كيان وروح وحياة تأتي ليعيشوا معها أروع الأوقات..
اليوم وفي زمن ثورة المعلومات والفضاء المفتوح وأقنية الإعلام تحول الشهر الفضيل في اليمن إلى مناسبة للاستغلال السياسي والتسويق المذهبي والشحن والتعبئة الطائفية التي أصبحت جماعة الحوثي تنافس فيها برامج التسويق الدرامي وتفوقه ابتذالاً فيما تقدمه طيلة أيام وليالي شهر رمضان الذي يفقتد اليمنيون روحانيته وسكينته ويجدون أنفسهم، أكثر اشتياقاً لرمضان الذي عرفوه وعاشوه قديما وسكن ذاكرتهم وتنبعث روعة طقوسه وروعة تفاصيله من أعماقهم ويشعرون وهم يتذكرون أيامه يستعيدون معايشة تفاصيلها صورة وصوتا ورائحة، أن مليشيا الحوثي لم تسلبهم فضيلة الشهر وحسب بل سلبتهم كل الوقت وكل تفاصيل الأيام.
واليوم وفي ظل سيطرة مليشيا الحوثي على المشهد السياسي والثقافي والديني واستيلائها على المساجد، يتم تغييب ما تبقى من الطقوس الرمضانية ويتلاشى كل ما تبقى من موشحات وابتهالات الترحيب والوداع ويتم ملء فضاءات اليمنيين بالضجيج الطائفي الذي حول المساجد إلى استراحات ومجالس للمقيل، واستبدل المصاحف فيها بالشاشات والتسابيح بالزوامل ومزق روحانيتها وهدوءها بصرخات الموت، وأسكت أصوات مشائخ القراء أمثال محمد القريطي ومحمد حسين عامر وغيرهم من مشاهير القراء الذين التصقت أصواتهم بروحانية الشهر الفضيل في ذاكرة اليمنيين، واستبدلها بصوت مقرئ من خارج الحدود كتعبيرٍ عن التزام الجماعة الحوثية بكل ما جاءها من إيران.