دائمًا وأبدًا ما تبقى في تاريخ الشعوب أياماً خالدة ومحطات مضيئة وصفحات ممتلئة بالتوهج والأرقام التي لا تمحى ولا يمكن نسيانها أو تجاوزها مهما تعاقبت الأحداث أو اشتد الصراع وتبدلت الأحوال والشخوص.
في اليمن كان يوم ٢٧ أبريل محطة بارزه للانطلاق نحو تأسيس أول مشروع ديمقراطي في البلاد بعد قيام الجمهورية اليمنية التي اعلنت في العام 1990م من خلال إجراء أول انتخابات برلمانية تنافسية حرة بين القوى السياسية في مرحلة توازن نسبي، وتنافس حزبي شديد، واجراءات انتخابيّة شفافة.
وقد حرصت القيادة السياسية ممثلة بالرئيس علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية الأسبق على أن تتم الدورات الانتخابية كل أربع سنوات، كما تم اقرار الانتخابات الرئاسية المباشرة عن طريق اختيار الشعب بعد اجراء التعديلات الدستورية، بدلًا من اختيار الرئيس عبر مجلس النواب مما حقق نقلة نوعية لتوسيع قاعدة المشاركة بتزامنها مع الانتخابات المحلية، ومثلت حينها تحولاً كبيراً لأنها منحت الشعب اختيار من يمثله في أعلى الهرم والسلطات المحلية لترسيخ التداول السلمي للسلطة.
كانت المرحلة تسير بخطى واثقة وتراكمات فعالة، قبل أن تبدأ ارهاصات التذبذب من قبل القوى السياسية إلى أن وصلنا لأحداث ٢٠١١ وما سبقها من تعنت ومحاولة التفاف على المشروع الديمقراطي بل وايقافه حتى الساعة.
وبمجيء الربيع العربي أجهضت كل المحاولات والتجارب في هذا الاطار واختل السياق تمامًا كما لو أن هناك من كان يتربص بالمشروع ليدفنه حيًا، ليبدا العد العكسي وتبدأ سنوات الحرب والدمار وانهيار كامل البنية التحتية في كل مناحي الحياة سياسية واقتصادية واجتماعية وتنموية، واصبح جميع اليمنيين يعيشون هذه المآسي ويتجرعون العذاب الذي لم يتوقف.
لذلك لا بد من التفكير العقلاني والموضوعي لتشكيل رؤية استشراف جديدة للمستقبل نتجاوز فيها الواقع المؤلم الذي نعيشه وتتبنى بعض الرؤى والاتجاهات العامة بعيدًا عن التكرار والسرد لأحداث وكوارث بات يعرفها القاصي والداني، ولذلك علينا اليوم رسم لافتات طريق كتلك التي توضع على الطرقات كعلامات إرشادية وهذه برأيي مهمة الكاتب والسياسي والمثقف وأصحاب الحل والعقد، القيام بها الآن والتي تراعي الآتي:
أولاً: ما حصل من انتكاسة للوطن يتحمل الجميع مسؤوليته سواء من كان في الحكم أو المعارضة، لسبب بسيط وهو أنهم لو اتفقوا على الحلول والتوجهات لما حصل الذي حصل ولما اختل ميزان الوطن ما أدى إلى الفوضى ودمار كل شيء!
ثانيًا: يجب الاعتراف بأن التجربة الديمقراطية السابقة كانت تجربة ناشئة وخطوة هامة على الطريق الصحيح، ولا ندعي أنها كانت نموذجية أو كاملة فقد شابها نواقص وجابهتها معوقات لأسباب شتى، وأنها كان قابلة أو هي طريق التطور والتحول، وعلينا اليوم أن ننظر إليها على أساس أنها كانت محطة انطلاق قطار انحرف عن سكّته بسبب وعورة الأرض وتضاريس الجغرافيا البشرية لبلد مثل اليمن به من التحديات والتعقيدات أكثر من فرص الاجتياز.
ثالثًا: نحن الآن كما يقول المثل الفرنسي يجب أن لا نبكي على اللبن المسكوب وإنما علينا أن نتعلم عدم تكرار ذلك من جديد لا نريده أن يُسكب مرة ثانية ولذا فإنه لا بد من استعادة الدولة واعادة بناء المؤسسات، وتضميد الجراح، والالتفات إلى المعاناة الإنسانية جراء انقطاع صرف المرتبات، وتردي الخدمات... الخ.
يجب مراعاة أن المستقبل مظلم ما لم نبتكر حلول ناجعة، وألا نظل ننتظر من الآخرين أن يحلوا لنا العقد التي أوجدناها وصنعناها بأيدينا، وأن تكون الديمقراطية وسيلة بالصورة التي تتماشى مع واقعنا وليس على الطريقة الأمريكية التي افرغت من محتواها الحقيقي بعد غزو العراق وفشل الأمريكان في اثبات حجة الغزو واستباحة بلد عربي تحت ادعاءات السلاح الكيميائي فلجأت إلى تبرير الغزو بذريعة اقامة حكم ديموقراطي في العراق فكان البديل الفوضى، ولاحقا نفس الشعار اطلقته عند ما سمي بالربيع العربي ونتج عنها تحطيم هياكل الدول وبروز مليشيات تهيمن على اليمن وليبيا والعراق، رغم أننا في اليمن كنا في غنى عن هذا المكيال الغير عادل وكنا نحظى بواقع قابل للتطوير وليس للتدمير.
ولذلك فرضت هذه الأحداث أسئلة كثيره حول الديمقراطية وطريقتها وجديتها كمشروع ومدى نجاعتها وكيفية ترجمتها وأهميتها في حال كنا صادقين مع أنفسنا ونسعى إلى زحزحة الحياة الرتيبة المتبوعة بالحروب والصراع بعيدًا عن الرؤية الأمريكية الزائفة التي لا نجدها ملزمة لنا بقدر ما هي نهج نحن من يختاره ويقرره بما يتوافق مع الحاجة لترتيب الداخل والصالح العام.
صحيح أن أحدث غزة اليوم خلقت واقعا جديدًا أكثر تعقيدًا ورسمت صورة قاتمة لكن لا يعني ذلك أن الديمقراطية أمر سيء بالعكس وهي تجربة حية بعيدًا عن الاستخدام والتصور الغربي لها من خلال الكيل بمكيالين وهذا لا يعنينا، ولا يمكن نسيان أو تجاوز ما حدث للعراق تحت نفس الشعارات وما يحدث اليوم لأبناء غزة ولا يمكن أن يسقط بالتقادم وسيظل نقطة سودا ضد الأمريكان قبل الكيان الصهيوني، وسنظل مع الشعب الفلسطيني حتى يسترد حقه.
رابعًا: الفكرة الأساسية الآن هو كيفية إعادة بناء الدولة بأي صيغة توافقية تشاركية لإنقاذ الناس من العوز والجوع والمرض، ولا بد من وسائل شوروية وانتخابات لقطع الطريق عن المشاريع الدينية المتطرفة والحق الالهي وفرض جماعات على حساب المجتمع، ولا بد من الاتفاق على دستور وحكم انتقالي يرسم تطلعات الشعب بحكمة وصبر لا يقفز فوق الواقع فالهدف ليس الديموقراطية وحسب بالياتها المعروفة ولا مانع من التفكير خارج الصندوق لإنقاذ وطن مهدد بالتشظي.
خامسًا: أرى الآن أن المهمة العاجلة هي تشكيل كتلة وطنية صلبة لإنقاذ الوطن عبر الحوار البناء لوضع مشروع وطني يلتف حوله الجميع وادانة كل من يسعى لعرقلة ذلك لصالح أجندة لا تخدم الناس والبلاد، واختيار الشخصيات والرموز الوطنية المعروفة لإدارة حوار وطني يفضي إلى التوافق على حل شامل للصراع، على أن يسبق ذلك وقف شامل للحرب والدخول في حوار لا يستثني أحد بضمانة الأمم المتحدة والدول الفاعلة اقليميا ودوليا.
اليمن تحتاج لصياغة مشروع وطني للإنقاذ، واول خطوة لتحقيقه في الجلوس معا والتخلي عن كل أجنداتنا السابقة بلا حساسيات ولا رغبة في الانتقام أو لمجرد تسجيل النقاط، فالوطن أكبر من الأشخاص مهما كانت مكانتهم لأن اليمن أمانة في عنق كل أبنائه.