لم يكن الرئيس علي عبدالله صالح ديكتاتوريا أو حاكما مستبداً أو شبحاً مخيفاً يخشاه اليمنيين ويشعرون بعيونه تراقبهم وآذانه تتنصت عليهم في الشوارع ومراكز العمل واللقاءات العائلية وغرف النوم، ولم يكن له أجهزة قمعية وجلادين وزوار ليل ومخبرين سريين يعتمد عليهم في تثبيت حكمه وتعزيز سطوته وبث الرعب في القلوب، ولم يكن لديه سجون ومعتقلات سرية يستخدمها لإخضاع معارضيه وخصومه السياسيين ومصادرة حقهم في الحياة.
لم يكن علي عبدالله صالح يمتلك أي مما سمعنا وقرأنا عنه من سطوة الحكام المستبدين، وكان الرئيس الديمقراطي في زمن الدكتاتوريات، والمتسامح في زمن القبضة الحديدية للأنظمة، والداعي إلى تغليب صوت العقل وقيم السلام واعتماد الحوار وسيلة لحل الخلافات والتباينات وإنهاء الصراعات السياسية والعسكرية ونبذ الأحقاد، وهو ما ترجمه قولاً وعملاً منذ اليوم الأول لوصوله إلى السلطة، من خلال اطلاقه مبادرات سياسية تكللت بإعادة الكثير من المنفيين السياسيين وفي مقدمتهم رؤساء جمهورية سابقين ونجح من خلالها أيضاً في انهاء الصراعات والحروب التي شهدتها المناطق الوسطى لسنوات طويلة، ويكفيه فخراً أنه الرئيس العربي الوحيد الذي كان يجلس إلى جواره رئيسين سبقوه في حكم اليمن ومناضلين ويوكل مسئولية إدارة أجهزة حكومية وقيادة وحدات عسكرية لقادة كانوا ألد خصومه السياسيين والعسكريين.
كان من السهل على الرئيس الصالح أن يسلك الطريق الأسهل ويكون حاكما دكتاتوريا، لكنه لم يفعل ذلك واختار السير في الطريق الأصعب، وفي زمن الحاكمية المطلقة والانفراد بالقرار تبني الخيارات الديمقراطية وآمن بأن الدولة ليست قبيلة مختلفة أو كياناً غريباً يمثل تهديداً أو عدواً يخشى الشعب سطوته وإنما مؤسسة يمتلكها الشعب ومنه تستمد بقاءها وديمومتها ونجاحاتها واعتبره مالك السلطة وصاحب الحق في منح المسئولية لمن يستحقها.
راهن الصالح على الشعب واتجه لتفعيل دوره وتعزيز اسهاماته في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، وهو الرهان الذي ما لبث أن تمت ترجمته على أرض الواقع، وبدءاً بتفعيل المشاركة المجتمعية في التعاونيات والارتقاء بها وايصالها إلى مرحلة اجراء انتخابات يختار فيها المواطنين من يرونه مناسبا لإدارتها، مرورا بتوسيع دائرة المشاركة وتفعيلها سياسيا من خلال صياغة أول وثيقة لتنظيم العمل السياسي والمتمثلة في الميثاق الوطني وتأسيس أكبر تنظيم سياسي في اليمن، وانتهاءً بتفعيل الإرادة الشعبية والاستناد عليها في اختيار أعضاء مجلس الشورى، كان الصالح يسير باليمنيين نحو الديمقراطية ويؤصلها ويغرس مبادئها ويحولها إلى ثقافة وسلوك ونهج سياسي كلله بالانتصار لإرادة الشعب وحمايتها دستوريا وترجمها في الـ27 من ابريل 1993 بإجراء أول انتخابات برلمانية في تاريخ اليمن.
لم تكن الديمقراطية في فكر الرئيس الصالح ترفاً سياسياً بقدر ما كانت وستظل أمانة وحقاً شعبياً ناضل من أجل الانتصار له وتفعيله كضمانة أساسية للحقوق والحريات العامة والخاصة وأساس متين لبناء النظام السياسي وقيام علاقات سوية ومتطورة بين الشعب ومؤسسات الحكم التي يتم الاستيلاء عليها اليوم واستغلالها وتوجيهها لبسط سيطرة الفرد وتعزيز سلطته وترسيخ ثقافة الحق والاختيار الإلهي ومصادرة الإرادة الشعبية واستبعادها نهائيا واعتبارها كفرٌ والحاد يتعارض مع إرادة الله.
كانت الديمقراطية وتفعيل إرادة الشعب أمانة الرئيس الصالح التي ناضل من أجل ترسيخ مبادئها وانتصر لها وترجمها في أكثر من ثلاث دورات انتخابية محلية وبرلمانية ورئاسية ودافع عنها حتى آخر يومٍ في حياته، لكنها لم تعد كذلك اليوم وها هو الشعب اليمني يُساق بلا صوت وبلا إرادة إلى المجهول ويعاني الويلات وينتظر في يأس من ينتصر له ويعيد إليه أمانة الصالح..!!