تشنّ الميليشيا الحوثية الموالية لإيران منذ ستة أشهر هجمات عسكرية على السفن التجارية في البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن، بهدف تعطيل التجارة وحركة الشحن الدولي في الممر المائي الاستراتيجي، وذلك على خلفية الحرب الدائرة في قطاع غزة، ما ألحق أضراراً اقتصادية كبيرة بدول المنطقة، علاوة على تعطيل العملية السياسية وعرقلة الجهود الدولية والإقليمية الرامية لإنهاء الحرب في اليمن والتوصّل لتسوية سياسية شاملة.
وتحتجز الميليشيا الحوثية منذ 19 نوفمبر الماضي السفينة "جالاكسي ليدر" وأفراد طاقمها، بعد أن استولت عليها واقتادتها إلى الساحل اليمني.
وردّاً على هجمات الحوثيين التي تستخدم فيها الصواريخ الباليستية والمجنّحة والطائرات والزوارق المسيّرة ضد السفن التجارية في البحرين الأحمر والعربي تشنّ الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا منذ 12 يناير الماضي ضربات جوية مركّزة تستهدف مواقع عسكرية في مناطق سيطرة الحوثيين بينها منصّات إطلاق الصواريخ.
وفي 2 مارس الماضي غرقت سفينة الشحن "روبيمار" التي تحمل على متنها أكثر من 21 ألف طن متري من سماد فوسفات الأمونيوم والوقود، بعد استهدافها من قبل الحوثيين في 18 فبراير الماضي.
وعلى الرغم من تشكيل الولايات المتحدة وعدّة دول تحالف "حارس الازدهار" في 19 ديسمبر 2023، وإطلاق الاتحاد الأوروبي عملية "أسبيدس" في 19 فبراير 2024 لحماية السفن من هجمات الحوثيين، إلا أن الهجمات تواصلت لتصبح أخطر وأوسع.
ويؤكد قادة الميليشيا الحوثية استمرارها في تنفيذ عملياتها العسكرية "حتى يتوقّف العدوان ويرفع الحصار عن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة".
وألحقت الهجمات البحرية ضرراً كبيراً بالتجارة الدولية وشعوب المنطقة، إذ تمنع تسليم المواد الغذائية والأدوية والمساعدات الإنسانية وترفع من تكاليف السلع التجارية كما تعرّض أطقم السفن إلى الخطر.
وتحتاج الآن مئات السفن التي تحمل الإمدادات الحيوية إلى قطع مسافة أربعة آلاف ميل حول الطرف الجنوبي لأفريقيا كي تتجنّب المرور من البحر الأحمر. وتضيف عملية إعادة توجيه السفن إلى رأس الرجاء الصالح تكاليف كبيرة على الغذاء والوقود والسلع الأخرى في اليمن.
ويؤكد المبعوث الأممي الخاص إلى اليمن هانس جروندبرغ أن تصاعد التوتّرات الإقليمية المرتبطة بالحرب في غزة، وبشكل خاص التصعيد العسكري في البحر الأحمر، يؤدّي إلى تباطؤ وتيرة جهود السلام في اليمن. وعلى الرغم من محاولاته لعزل عملية السلام عن الديناميات الإقليمية الأوسع، إلا أن الواقع يبرهن بأن جهود الوساطة في اليمن لا يمكن النأي بها عمّا يحدث. فما يحدث على المستوى الإقليمي يؤثّر على اليمن، وما يحدث في اليمن يمكن أن يؤثّر على المنطقة.
أزمة شحن
وأعلن البنك الدولي أن البحر الأحمر، وهو ممر حيوي لنحو 30% من حركة الحاويات في العالم، يواجه حالياً أزمة شحن على نطاق غير مسبوق، بسبب الهجمات التي يشنّها الحوثيون ضد السفن التجارية.
وقال في تقرير حول تأثير أزمة الشحن في البحر الأحمر إن الصراع الأخير في الشرق الأوسط أدّى إلى هجمات على السفن التجارية، ما تسبّب في تراجع كبير في النشاط البحري.
واعتباراً من نهاية مارس 2024، انخفض حجم حركة المرور عبر قناة السويس الاستراتيجية ومضيق باب المندب بمقدار النصف، بينما شهد الطريق البديل عبر طريق رأس الرجاء الصالح زيادة في الملاحة بنسبة 100%.
ويتجلّى التأثير بشكل حاد في موانئ البحر الأحمر والاقتصادات المرتبطة بها.
ويعاني كثير من الموانئ من انخفاض حجم المرور، في حين يستفيد عدد قليل من حركة المرور المحوّلة.
وكان للاضطّرابات في الموانئ اليمنية آثار ملموسة، خاصةً في المملكة العربية السعودية، على الرغم من أن التأثير يتضاءل بشكل أكبر عندما يتعلّق الأمر بمركز الصراع.
وأكد تقرير البنك الدولي أن لهذه الأزمة آثار بعيدة المدى، ليس فقط على صناعة الشحن ولكن أيضاً على البيئة والاقتصاد العالمي.
وأدّت الطرق الأطول التي يتطلّبها الوضع الحالي إلى زيادة مسافات السفر للبضائع والناقلات بنسبة تصل إلى 53%، ما تسبّب في ارتفاع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بسبب حرق الوقود الإضافي.
ومن الناحية الاقتصادية، أدّت الأزمة إلى ارتفاع أسعار الشحن وتكاليف التأمين على الشحن، ما ساهم في التضخّم وأثّر سلباً على اقتصادات الشحن الإقليمية والدولية.
وتؤكد السفارة الأمريكية لدى اليمن والعديد من المنظّمات الدولية أن هجمات المسلّحين الحوثيين على السفن التجارية تؤدّي إلى حرمان آلاف الصيّادين اليمنيين من مصدر رزقهم.
ومنذ أن بدأ الحوثيون المدعومون من إيران بمهاجمة السفن في البحر الأحمر، تضرّر آلاف الصيّادين. وأجبرت هجمات الحوثيين العديد منهم على الانتقال إلى أماكن أخرى أو المخاطرة بالتعرّض للجوع.
وفي محافظة الحديدة غرب اليمن وحدها، لم يتمكّن نحو 10 آلاف صيّاد من العمل كالمعتاد بسبب هجمات الحوثيين.
وما يزيد المشكلة سوءاً هو أن هجمات الحوثيين المتكرّرة على السفن التجارية تسبّبت في ارتفاع أسعار الوقود، ما جعل الحياة أكثر صعوبة بالنسبة للشعب اليمني الذي يعاني بالفعل.
وفي بلد حيث يقدّر البنك الدولي أن 17 مليون شخص يعانون من الجوع، فإن هجمات الحوثيين على الشحن البحري تزيد الأمور سوءاً، فاليمن يستورد حوالي 90% من المواد الغذائية الأساسية وفقاً للأمم المتحدة ويعتمد بشكل كبير على شحنات المساعدات.
وتوقّعت منظّمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة "الفاو" أن يؤدّي تصاعد أزمة البحر الأحمر إلى تسريع الزيادة في تكاليف الشحن أو تأخير تسليم المواد الغذائية الأساسية أو يؤدّي إلى تعليق كامل لطرق التجارة وإغلاق الموانئ اليمنية.
وبحسب تقرير جديد صادر عن المنظّمة الأممية فإن أزمة البحر الأحمر ستؤدّي إلى زيادة أخرى في انعدام الأمن الغذائي في اليمن، ما يؤثّر إلى حد كبير على السكان الأكثر ضعفاً، بما في ذلك الفقراء والنازحين داخلياً، الذين سيكافحون من أجل شراء المواد الغذائية الأساسية.
ووفقاً لتقرير "التأثيرات المحتملة لتصعيد أزمة البحر الأحمر على انعدام الأمن الغذائي في اليمن"، فإن وضع الأمن الغذائي في اليمن هشّ بالفعل، وستتسبّب المزيد من الصدمات الناجمة عن أزمة البحر الأحمر في إلحاق ضرر إضافي بالوضع المتردّي بالفعل الذي يمكن وصفه بأنه واحد من أسوأ حالات الطوارئ الإنسانية في العالم.
وواصلت إيرادات قناة السويس في مصر سلسلة التراجع التي بدأتها منذ بداية العام الحالي، لتسجّل الحصيلة المجمّعة خلال مايو الماضي نحو 337.8 مليون دولار بنسبة انخفاض 64.3%.
وكشف البنك الدولي أن هجمات الحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر تسبّبت في إلحاق خسائر اقتصادية بمصر تمثّل نحو 10% من صافي الاحتياطيات الدولية، وهو مبلغ يمكن أن يغطّي أكثر قليلاً من نصف شهر من الواردات.
وأوضح في تقرير "أحدث المستجدّات الاقتصادية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" الصادر أخيراً أنه بافتراض استمرار الصدمة التي حدثت في نهاية عام 2023 لفترة طويلة، فإن انخفاض حركة العبور في قناة السويس بنسبة 40% حتى عام 2024 سيعني خسائر قدرها 3.5 مليار دولار من عائدات النقد الأجنبي.
وأفاد التقرير بأن تضافر الآثار المترتّبة على أزمة قناة السويس والصراع الجاري في الشرق الأوسط يمكن أن يؤدّي إلى آثار سلبية للغاية على الموازنة العامة للدولة المصرية، نتيجة لانخفاض إيرادات الموازنة وعائدات السياحة.
وتعدّ قناة السويس مصدراً رئيسياً للنقد الأجنبي في مصر، حيث بلغت إيراداتها 8.8 مليار دولار (25% من صافي احتياطياتها الدولية) في السنة المالية 2023. ويذهب ما يقرب من ثلتي إيرادات هيئة قناة السويس إلى الموازنة العامة للدولة. وفي الآونة الأخيرة منحت القناة خصومات انتقائية لتعزيز قدرتها التنافسية وتشجيع مرور السفن.
وانخفضت حركة الشحن عبر البحر الأحمر بشكل ملحوظ منذ أن أشار الحوثيون إلى استعدادهم لتصعيد الأعمال العدائية في نوفمبر الماضي. وأثارت هجماتهم سلسلة من ردود الفعل من جانب شركات الشحن الكبرى والدول الأجنبية، شملت زيادة تكاليف الشحن والتأمين وتغيير مسار السفن والتجارة بعيداً عن البحر الأحمر، وتكثيف إجراءات الأمن البحري في منتصف يناير لتشمل الغارات الجوية التي تشنّها الولايات المتحدة وبريطانيا على مواقع الحوثيين في شمال اليمن، وإعادة تصنيف الحوثيين كمنظّمة إرهابية عالمية من جانب الولايات المتحدة اعتباراً من 16 فبراير 2024.