تجلت ثورة أكتوبرية من أعظم الثورات العربية في جنوب اليمن، لكنها لم تكتمل إلا بعد ملحمة كفاح شعبي مرير امتد لأربع سنوات، تكبد فيها الاستعمار الانجليزي مالم يتكبده في كل الدول التي احتلها، الى أن تم إعلان الاستقلال في 30 نوفمبر عام 1967، وغروب الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس من المنطقة!.
إلى العام 1967 كانت المنطقة العربية تترقب الفصل الأخير لتواجد الاستعمار الغربي؛ الذي بسببه أقيمت الحدود المصطنعة بين العرب؛ واغتُصبت فلسطينُهم.. ولطرده من منطقتهم أريقت أنهار من الدماء؛ في اليمن وفلسطين؛ ومصر والعراق؛ وسوريا ولبنان؛ والسودان وليبيا؛ والجزائر بلد المليون شهيد!!
كانت المنطقة حينها خارجة للتو من نكسة حزيرانية جرحت كرامة العرب، بسبب تحالف القوى الاستعمارية مع إسرائيل لضرب مصر عبدالناصر ومشروعه العروبي الآخذ في التألق، وعم الحزنُ الشعوبَ العربية من المحيط الى الخليج.. ماجعلها بأمس الحاجة لأي نصر يرد الاعتبار لكرامتها.. فكان لها ما أرادت.. ومن بلاد سبأ أتاها النبأ اليقين.. بريطانيا تحمل عصاها وترحل من جنوب اليمن؛ بعد ملحمة كفاح أشعلت الأرض تحت أقدامها!
يوم أن عاد الثائر لبوزة ورفاقه إلى ردفان في اكتوبر 1963؛ قادما بالدعم والسلاح من حكومة صنعاء السبتمبرية الثائرة لتفجير ثورة ضد المستعمر؛ استشاط القائد البريطاني في ردفان غضبا وأرسل اليه رسالة لتسليم أنفسهم وأسلحتهم للحكومة الخاضعة للمحتل وعدم العودة للشمال، فرد لبوزة برسالة رافضة ابلغه فيها "أن حكومتنا هي حكومة الجمهورية اليمنية لا حكومتكم"، مُرفقا رسالته برصاصة داخل مظروفها.. فتحركت القوات المحتلة لاعتقال رفاقه؛ لتندلع مواجهات بالمدافع والدبابات والطائرات والقصف البريطاني المدمر في معركة غير متكافئة انتهت باستشهاد لبوزة وهو قابضٌ على بندقيته يطلق النار على الإنجليز في جبال ردفان!
نهاية مبكرة ربما انتشى المستعمر بإنجازها، وظن أنه بقوته الإرهابية أطفأ جذوة الثورة، دون أن يعي انه كتب نهايته بيده.. فقد اشتعل الجنوب غضبا وكفاحا شعبيا امتد لأربع سنوات شارك فيه كل القطاعات المجتمعية رجالا ونساء، بدءا بمظاهرات عارمة واجهها المحتل مكابراً ومناورا؛ بالاعتقال والقوة الساحقة، لتنطلق بعدها من عدن عمليات فدائية طيّرت رؤوس قياداته وجنوده في كل المدن، وانسكبت فيها الدماء الجنوبية كالأنهار، مستمدين الإلهام والسند من ثورة سبتمبر والجيش المصري العظيم، فيما تلك الثورة تواجه حرباً منهكة مع بقايا الامامة- المدعومة غربيا.. وأمام خسائرها الفادحة ودموع جنودها وإدانات العالم خضعت بريطانيا ودعت الى مفاوضات لإنهاء احتلالها، وبعد ايام من التفاوض في جنيف بين حكومتها والجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن برئاسة الزعيم قحطان الشعبي، اعلن الاستقلال وجلاء آخر جندي بريطاني في30 نوفمبر67، بعد 129 عاما من الاحتلال.. حينها تنفس اليمنيون الصعداء بانقشاع الامامة شمالا والانجليز جنوبا في توقيت متزامن، بعد كفاح مذهل لقن الاستعمار درسا لن ينساه!
إنجازٌ مَهيب؛ لم يمثل انتصارا لجنوب اليمن فقط، بل وصفه مؤرخون بأنه رد اعتبار للكرامة العربية ولمصر عبدالناصر؛ الذي كان لشخصيته الملهمة الفضل الاكبر في إحياء الآمال العربية وتوحدها حول حلمٍ نبيل؛ انتهى بخروج الاستعمار من المنطقة؛ في زمن الكرامة!