حين يصبح الفكر مسؤولية في عالم يزداد ضجيجا وتتنافس فيه الأصوات على فرض حضورها ،
يغيب أحيان السؤال الأهم الا وهو : ماذا تكشف طريقة حديثنا عنا ؟
فقبل أن تتبلور المواقف وترفع الشعارات ، تفضح الحوارات البسيطة عمق
الثقافة التي تحكم العقول وتوجه السلوك ، فالكلمات التي نتبادلها ليست مجرد
وسيلة للتفاهم ، بل شواهد صامتة على ما نحمله في داخلنا من وعي أو فراغ
ففي كل حوار مهما بدا عابرا ، تتسرب القيم التي نشأنا عليها ، وتنكشف حدود
تفكيرنا ، ويتجلى مستوى علاقتنا بالاختلاف والحقيقة
ومن خلال هذا الامتحان اليومي غير المعلن ، تقاس قوة المجتمعات
لا بعدد ما تملكه من موارد ، بل بعمق ثقافتها وقدرتها على إنتاج فكر حي يقودها إلى الأمام ، ومن هنا تقرأ الثقافة بوصفها محركا خفيا لمصير الأفراد والأوطان ، لا شعارا يرفع ولا فكرة تردد
ففي اللحظة الأولى التي تتلاقى فيها الأصوات ، وقبل أن تتشابك الحجج
او تتصارع الآراء ، تولد الحقيقة الصامتة بين السطور ب " ثقافة تتكلم دون أن تعرف نفسها " ، فحوارات الشعوب ليست مجرد تبادل كلمات ، بل مرايا خفية
تعكس ما استقر في الوعي وما ترسخ في اللاوعي ، وما ولد مع الإنسان فطرة أو تشكل فيه بفعل لحظة عابرة ثم ألبس ثوب الثبات من خلالها
إن طريقة تفكير الأفراد ليست مسارا عشوائيا ، بل خريطة تقودنا إلى عمقهم
أو إلى فراغهم ، فإما فكر متجذر يعرف لماذا يقول ما يقول ، وإما صدى
موروث يتكرر بلا مساءلة ، ويستعاد لأنه اعتاد البقاء لا لأنه صالح للحياة
وبين هذين المسارين يكتب مصير الأوطان بين " ارتقاء بطيء لكنه راسخ ،
أو تراجع صاخب يتخفى خلف ضجيج الشعارات "
فالثقافة على خلاف ما يظن ، ليست زينة تعلق على جدران المجتمعات ،
ولا مخزونا يستدعى عند الحاجة ، بل هي العمود الفقري لكل بناء إنساني
هي الأساس الذي إن صلح حمل فوقه المستقبل بثبات ، وإن تصدع انهار كل
ما شيد عليه مهما بدا شامخا ، لذلك لا يقاس وعي الشعوب بما ترفعه من
عناوين ، بل بما تكشفه أولى لحظات الحوار بينها في " نبرة السؤال ،
و طريقة الاختلاف ، وفي قبول الآخر أو إقصائه "
ومن تلك اللحظة الصغيرة غير المرئية غالبا يبدأ تشكل القرار الجمعي
هناك عند تقاطع الأفكار لا عند نهاياتها نعرف إلى أين نمضي ولماذا نمضي ،
وهل نحن صناع طريق أم أسرى عودة لا نعترف بها !
فالمجتمعات لا تنهض فجأة ولا تسقط فجأة ،
بل تتحرك ببطء في الاتجاه الذي تحدده عقول أفرادها
فإن الارتقاء الحقيقي لا يفرض من أعلى ، ولا يمنح بقرار بل ينبت
من الداخل من أفراد يحملون عطشا صادقا للمعنى لا رغبة عابرة في المكسب
أفراد يرون في البناء مسؤولية لا فرصة ، وفي الوطن فكرة لا غنيمة
أما أولئك الذين تحركهم المصالح الفردية فإنهم وإن لبسوا ثوب الإصلاح
تنكشف هشاشتهم عند أول اختبار ، فتتعرى الأساسات ، ويظهر كم كانت
غير مؤهلة لحمل أي مشروع طويل الأمد
فالفكر في جوهره قوة خفية ، والفرد الذي يحمل فكرا عظيما لا يحتاج إلى
منبر مرتفع ليؤثر ، يكفي أن يتقاسمه عمدا أو دون قصد حتى يبدأ الأثر في
التسلل إلى وعي الآخرين كالنور الذي لا يطلب الإذن ليضيء
وهكذا تبنى الأوطان الحقيقية بتراكم الأفكار الصادقة لا بتكاثر الأصوات العالية
أما الفكر الهزيل فهو أشبه بحمل ثقيل يلقى على ظهر المجتمع ولا يقوده إلى
حافة الهاوية فحسب بل يدفعه مباشرة إلى قاعها ، لأنه يزيف الوعي ويستبدل السؤال باليقين الأعمى ، ويمنح الوهم صفة " الحقيقة " وعندها لا يكون السقوط مفاجئا بل نتيجة طبيعية لمسار اختير منذ البداية
وهكذا ، بين فكر ينقذ وفكر يغرق تتحدد ملامح المستقبل
فالأوطان لا تهزم من الخارج أولا بل تختبر من الداخل ، في ثقافة أبنائها ،
وفي صدق حواراتهم ، وفي قدرتهم على أن يجعلوا من الفكر مسؤولية لا عبئا
ومن الاختلاف بداية وعي لا بداية انقسام .