كان يريدُ مَنْ يحمل اسمَه!
في سن السادسة عشرة زوَّجه والده الفقير من ابنة عمه الأفقر، وهكذا أصبح" سمننا في دقيقنا" كما يقول المثل التعيس. وبضربة واحدة أجهز على مستقبل طفلين وحكم عليهما بالأعمال الشاقة، فالولد هاجر من الريف ليغترب بحثاً عن مالٍ يعيل به أسرته، فقد صار زوجاً وسيصير أباً بيولوجيا. والبنت ذهبت إلى دار غير دار أبيها وأمها لتصبح أُماً بيولوجية وربة بيت وخادمة وطاهية وجميع المضافات إليها من قاموس الكد والكدح.
وبعد سنتين فقط صار الغلام أباً ومطلوبٌ منه أن يربِّي طفله! وهو لم ينجح بعد في تربية نفسه! ولم يعرف كيف يكون طفلا. وتداعت الأيام وأصبح له أحد عشر طفلا وطفلة ما لبثوا أن تفرقوا في مناكبها بحثاً عن لقمة العيش واحداً تلو الآخر.
قلنا له وقد وجدناه على سرير المرض في مستشفى الكلى يقوم بغسيلٍ دوري لكليتيه: لماذا كل هذا الذي فعلته بنفسك؟! قال: "كنت أريد ولداً يحمل اسمي! "
أي اسمٍ ثقيل هذا الذي تريد مَنْ يحمله معك؟! وما جدوى أن يحمله عنك أحدٌ، سواء كان ابنك أو غيره؟ ولماذا هذا التبرير العقيم؟!
تلك الأمنية الخرقاء من محفوظات نتوارثها بغباء وندفع ثمنها أعمارنا وأحلامنا وصحتنا وندمر من أجلها تلقائية الحياة ونبل الأثر!
وقد نجد من يتزوج مراراً وتكرارا؛ ليكثر من حملة اسمه! بدلا من أن يكتفي بطفلٍ واحدٍ ذكراً كان أو أنثى، يستطيع أن يطعمه جيداً ويكسوه جيداً ويعلمه جيداً ويمكّنه من أن يعيش طفولةً هادئةً هانئةً مستقرة؟!
ما جدوى أن تجد من يحمل اسمك؟ ولماذا ولمن تريد حمل هذا الاسم؟! وما جدوى توريث الاسم الذي لم تختره ولعلك لا تستحقه؟!
وقد نجد من يتزوج زوجةً أخرى لأن امراته عاقر، أو لأن ذريته إناث، وكأن الأنثى لا وجود لها ولا تستحق أن تحمل اسمه! أو لعله يراها لا تستطيع أن تحمل ذلك الاسم الثقيل المثقل بالسخف والتمييز ضد طفلته!
وقد يذهب للزواج بأخرى ويعبث بمصير شريكة حياته وبناته. وكل ذلك لينجب ذكراً يحمل اسمه، يا لهذا الاسم الغبي!
في الغالب تقال هذه التبريرات البائسة بصدق ومن أناس بسطاء يلوكونها ويكررونها وكأنها مُسلَّمات وبديهيات! وهذا الأنكى والأقسى! فهم يدمرون حياتهم من بدئها لختامها بدعوى واهية. بل ويدمرون حياة أبنائهم، ومن جرّاء ذلك، ينشأ مجتمعٌ بكامله مدمرا مستلبا، لأن سبب إنجابهم من أساسه سببٌ واهٍ، لا يستحق شيئا من كل تلك المكابدات ولا غاية له، و ليس له مبررٌ يمكن أن يحظى بأي معقولية!
مَنْ يتخيل هذا؟!
مَنْ يتخيل أن أجيالا تدافع عن أسمائها بهذه الطريقة وتريد أن تحفظ اسمها بهذا الدافع الزائف؟! لماذا يريد أن يحمِّل غيره مهمة الدفاع عن اسمه، حتى وإن كان اسمه يستحق الحَمْل؟! سيقول المتهافتون إنها رغبة الخلود. أي خلودٍ وهميٍ هذا؟!
ولماذا لا يخلّد اسمه بتأليف كتابٍ نافع أو إنجاز عملٍ فني، أو عملٍ خيري أو ابتكارٍ علمي، إن كان وهم الخلود يشغله، ولابد أن يكون لاسمه معنى ولنرجسيته أن تتوهم أن لها ما يستحق التمجيد والتخليد!
ثُم مَنْ يضمن له أن يكون الولد صالحاً يحافظ على اسمه؟! أو ناجحاً يزيد من بهائه الموهوم؟! فقد يغدو ولدا سيئاً يسيء لسمعة أبيه وسمعة مجتمعه. بل ولعله يجلب لأبيه اللعن والخزي وسوء الذكر!
ولنفترض أنه أنجب ولداً نشأ كما يحب ويرضى فمن يضمن له أن يظل نسله متصلاً جيلاً بعد جيل؟! فقد يكون ابنه أو ابن ابنه عقيماً ولا حيلة له في تغيير حكم الطبيعة.
بل وقد يموت ابنه قبل أن ينجب، أو قد يموت في حياة أبيه ويورثه الثكل، أو قد يؤتى من الحكمة ما يجعله رافضاً لمسألة أن يحمل اسم أحد، فيدمر الوهم الأبوي من أساسه ولا يتزوج أو لا ينجب إنْ تزوج!
ثم هل يعقل أنْ تْبنى أسرة لسببٍ كهذا ؟! ويُضيَع ذكرٌ وأنثى عمريهما ويرهنان حياتهما؟!
ثم هل من الإنصاف أن تحبس معك امرأةً طوال عمرها، لتنجب لك من يحمل اسمك؟! وهي لا حامل لاسمها! هل يعقل أن يذهب اسمها في مهب الريح ولا تجد لها من يحمله أم أن الخلود من حق الذكور فقط؟!
ما هذا العبث الذي نعيش له؟!
ولماذا لا ينتهي اللعب بمصير شعبٍ بدعاوى ومبررات جوفاء؟! إنها مسألة قد تبدو هيّنة لكنها وراء كل مصفوفة الهشاشة التي تنشئ مجتمعاً مريضا متهافتا على صناعة الهباء؟!
أليس جديراً أن تُسنَّ قوانين لتحديد سن الزواج وتحديد شروط السلامة النفسية والصحة العقلية، والأهلية للأبوة والأمومة، والعناية بوضع مواصفات يجب الالتزام بها لكي يؤذن لمن يوفرها بإنجاب أطفال؟!
بل شريطة أن يكون هناك تخطيط يستلزم إلزام كل أبوين بتحديد عدد الأطفال، وبما يتناسب مع قدرة الأسرة على إعالتهما وتربيتهما تربية منتجة، وتنشئتهما تنشئة واعية، بدلا من هذا العبث الذي يدفع ثمنه كل المجتمع، وليس الأب والأم فقط. فالطفل الذي لا ينشأ في أسرة سوية لا يمكن أن يكون مواطنا إيجابياً حتى ولو أراد أبوه وأمه ذلك واجتهدا في تحصيل قوته، فهذا لا يكفي!
لابد من أن تُسنَّ قوانين لمنع الإنجاب غير المُخطط له، وأن يُفرض على الأبوين أن يكشفا عن الذمة المالية الدالة على قدرتهما على إنجاب طفلٍ وضمان مستقبله، ويمنح كل طفلٍ الحق قانونا في طلب تعويضٍ من والديه إن هما قصرا في شيءٍ من واجبات القيام على رعايته، جراء اتخاذهما قرار إنجابه دون أن يكون لديهما القدرة على تحمل تبعات هذا القرار الوجودي.
لنكف عن دعاوى فضل الوالدين، ولنلتفت قليلا لكيفية تحميلهما مسؤولية الإنجاب، لربما يجدي ذلك في تحقيق شيءٍ من التعقل في حماية أطفال المستقبل من عبث الغريزة، وحماية المجتمع من فائض الفوضى.
إن الطفل الذي يولد لأبوين قاصرين سِناً أو ثقافة أو قدرةً مالية، لا يمكن أن يبدأ حياته كما ينبغي ولا يمكن أن يصبح نافعاً لمجتمعه! ولا يمكن لأي دولةٍ أن تسهم في تصحيح الأخطاء واستدراك ما يجنيه الآباء على أبنائهم، فما بالنا ونحن ليس لنا دولة، وليس لدى الفرد في مجتمعنا مقدرة على توفير الأمن الغذائي أو النفسي لطفلٍ واحد!
إنَّ الطفل الذي يولد برغبةٍ ساذجة لأبٍ ساذج ينشأ في مهب الريح، فلا الحنان يمكن أن يكفيه ولا الوقت الذي يمنحه له والداه الكادحان سيكون كافيا، ولا المال الذي ينفق لإعاشته سيلبي متطلباته الضرورية كطفلٍ له حق الرعاية وحق العناية والتنشئة بما يتناسب مع طفولته خالياً من كل أمراض الفقر ومحمياً من كل ظروف القهر! خصوصا إذا ولد في بيت يزدحم بالأشقاء والشقيقات؛ فكل مولودٍ تالٍ يخصم من حق سابقه، ومن حق نفسه في الاهتمام والرعاية والحنان والمأكل والمشرب والملبس والتعليم وحتى الأمن النفسي والتخطيط للمستقبل! بمعنى أن كل زيادة في الإنجاب تنتقص من كسب الوالدين وصحتهما ومن استقرار الأسرة، ومن حق الأطفال ومن حق المجتمع، بل ومن حق البيئة والطبيعة ومن حق الحياة!
وما أسوأ حينئذ أن يقال في غير سياقه: "تزوجوا فقراء يغنيكم الله من فضله" ، أو يقال: "تناسلوا، فإني مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة"! ويتم تناسي القول المأثور: " وأنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكن كغثاء السيل"، و تجاهل الزجر الصارخ في قوله: " ألهاكم التكاثر" !
إنَّ الطفل الذي يولد في وسطٍ يكتظ بالمعاقين ذهنيا ونفسياً لا يمكن أن يكون فرداً سوياً ناهيك عن أن يكون مواطناً إيجابيا. ومجتمعنا يكتظ بالمغلوبين على أمرهم ممن لا يتوفرون على صحة نفسية ولا كفاءةٍ عقلية، وما أكثر ما يكون الأطفال ضحايا هذا المجتمع.
إنَّ الطفل الذي يولد في بيتٍ يكتظ بالأطفال الفقراء مرغما سيعاني التلوث الضوضائي ومتوالياته ويفقد أعصابه ومخياله السوي في أول سنوات العمر التي تُسمّى سنوات التكوين!
إنَّ الطفل الذي ينشأ بين أبٍ وأم لا يفقهان من معنى الأبوة والأمومة سوى معنى ملكيتهما له، ووجوب طاعتهما طاعةً عمياء ينشأ محاصراً بشعور التابع، خانعاً مستسلماً لقدره يجتر تجربة أبيه وأمه ويكررها، أو ينقلب ساخطاً ناقماً على نفسه وعليهما وعلى المجتمع، ويندفع لتحرير نفسه إما بالهروب أو التمرد أو بممارساتٍ تهدف لكسب المال بكل وسيلة ممكنة، وعلى حساب كل المحاذير والوصايا، وربما على حساب سلامة المجتمع.
إنَّ الطفل الذي ينشأ وهو يشعر بأنه دفتر توفير أو حصالة نقود يستثمر فيها والداه لشيخوختهما، ولينفعهما حين يبلغا الكبر، وتهيئته ليكون لهما سندا وعوناً لاريب سيكون طفلا متشيئاً وسيدرك أن وجوده كان يمكن الاستغناء عنه بشراء عبد، لو كان زمن الرق مايزال قائما، أو باستئجار شغَّالة أو الذهاب إلى بلد تمنح حق الرعاية للمسنين والعجزة.
إنّ الطفل الذي ينشأ مذموماً مدحورا مُهدر الطفولة ملاحقاً بالتزامات معيشية واحتياجات أساسية لن يجد وقتاً ولا مناخا ليصبح إنسانا سويا ، ومن ثمَّ مواطناً حرا ينتج ويبدع ويسهم في الإنجاز الحضاري لمجتمعه. وهو في المحصلة مجرد ترسٍ في آلة المجتمع الرتيب.
إنَّ الطفل الذي سيدرك بعد حينٍ من الدهر أنه وماله لأبيه سيشعر أنه مملوك وسيسهل عليه بعد ذلك أن يقبل بأي مالك أي سيدٍ يضمن له شيئا من قوته أو يوهمه بأن له فضلا عليه، وعندئذٍ لن يأنف من العبودية، ولن يستعيد فردانيته ودوره في الحياة، وسيكون من السهل عليه أن يحوَل ملكيته للسلطان ويصبح عبداً متملقاً لا مواطناً حرا .
وفي الخلاصة إن الطفل الذي يولد لمجرد رغبة أبٍ أرعن في أن يحمل اسمه سيدرك كم كان سببُ وجوده تافهاً حتى وإن كان ابن الامبراطور، وولي عهد الامبراطورية العظمى !
من هنا ينشأ الإنسان المهدور مهيأ لأن يكون الإنسان المقموع ويتوالى مواليد برج النكد وتصبح الملايين المقيدة في سجلات جهاز الإحصاء مجرد أرقام معاقة في دولٍ ليس لها من أدبيات الدولة سوى المسميات الجوفاء والتوصفيات الكاذبة الخرقاء!
وحيث لا يوجد تأمل في سبب الوجود لا يمكن أن يصير للوجود معنى، ولا للحياة جدوى.