عادة ما تفرز الحرب تجار حروب يستفيدون من استمرارها؛ إلا أن حرب اليمن أنتجت تجارا آخرين، يمكن تسميتهم بتجار السلام. فمن هم تجار السلام في اليمن؟ وما هي مواصفاتهم؟ ومن أين تأتي مواردهم؟
منذ اندلاع الأزمة أو الثورة في اليمن عام 2011؛ خصصت الكثير من الدول وبالذات الدول الأوروبية، ميزانيات لمساعدة اليمنيين على حل خلافاتهم. وقد تضاعفت قيمة هذه الميزانيات بعد اندلاع الحرب في 2015 من أجل إحلال السلام في اليمن.
من حيث الشكل؛ دوافع وأهداف هذه الميزانيات نبيلة في الغالب، كما أن الكثير ممن يبادرون لإيجاد ميزانيات السلام في الدول المانحة، يتسمون بحس إنساني عالي، ومسؤولية أخلاقية لا غبار عليها. إلا أن رصد ومتابعة وسائل وآليات استخدام معظم تلك الميزانيات، وكذلك مخرجاتها، يكشف عن عدم جدواها، والأسوأ من ذلك مساهمة "برامج السلام" في استمرار الحرب بشكل أو آخر.
إضافة إلى استحواذ حفنة متربحين من اليمنيين والأجانب لتلك الميزانيات، والذي يمكن أن نطلق عليهم بتجار السلام.
تبدأ قصة تجارة السلام، بعمل لوبيات من قبل المنظمات الناشطة في مجال "السلام" في الدول المانحة، داخل حكوماتها ومجالسها التشريعية لتخصيص مبالغ لإنهاء "الحرب الكارثية في اليمن" وتحقيق السلام. وفي الغالب يتم اقتطاع نسبة من المساعدات الإنسانية الموجهة لليمن لبرامج السلام. والحجة القوية التي تُطرح من قبل تجار السلام في تلك الدول تتمثل في القول بأن برامج المساعدات الإنسانية تعالج أعراض المشكلة بينما الأموال الممنوحة لبرامج السلام تنهي المشكلة الأصلية وتمنع تكرارها.
وبعد أن تُــقر ميزانيات السلام وتُسلم لتجار السلام في تلك الدول، والذي يمكن تسميتهم بالمقاول الأصلي، يتم التواصل مع تجار سلام يمنيين، يقومون بدور المقاول من الباطن تحت أسم شريك محلي. وفي العادة هناك تجار سلام ومقاولون محليون شطار في التعامل مع المقاولين الخواجات، واصبحوا بالفعل شركاء دائمين في هذه التجارة.
وأهم مواصفات تجار السلام المحليين إجادة اللغة الإنجليزية، ومهارات تواصل عالية مع المقاولين الخواجات، ودبلوماسيي دولهم، والمنظمات الدولية، وبالذات مكتب المبعوث الدولي، والذي يمتلك ميزانية ضخمة لبرامج السلام.
إضافة إلى تلك المهارات؛ على تجار السلام اليمنيين أن يتحلوا بحصافة خاصة، ومن ذلك اتخاذ مواقف رمادية تجاه أطراف الحرب، ومخاطبتهم بالصفات التي يطلقونها على أنفسهم. فإن كنت تاجر سلام فعليك أن تقول "أنصار الله" وليس الحوثيون، وعليك أن تقول المجلس الانتقالي ولا تقول الانفصاليون. وأما إن كنت من هذه الأطراف فإن لديك الأولوية لتكون شريك (مقاول محلي) دائم.
المقاولون الخواجات وكذلك الدبلوماسيون ومكتب المبعوث الأممي والمنظمات الدولية لديهم تعاطف مسبق مع الحوثيين، والانفصاليين، منذ أن أصبحت اليمن في عهدتهم من بعد 2011؛ فوفقا لهؤلاء فإن الحوثيين والانفصاليين هم أقليات مضطهدة ينبغي دعمهم وتقوية مراكزهم. وقد أثمر هذا التعاطف ولا زال، في تفكيك اليمن وتقسيمه.
منذ إندلاع الحرب في مارس 2015 أُنفقت عشرات الملايين لـ "برامج السلام" في اليمن، وقد استحوذ المقاولون الخواجات على معظم تلك الأموال،
وحصل المقاولون المحليون على جزء منها. وكانت مخرجات تلك البرامج مئات من ورش العمل التي يُكرر فيها ترديد نفس الكلام بصيغ مختلفة، ومن قبل نفس الأشخاص تقريبا. وإذا ما تم تفريغ مخرجات تلك الورش في أوراق لبلغ وزنها عدة أطنان من الكلام الفارغ والمكرر. في المقابل لم تغير "برامج السلام" من طبيعة الحرب أو تحقق أي اختراق يذكر في أي قضية تبنتها. أما السلام الموعود فيستحيل أن يتحقق على أيديهم، لسبب بسيط يتعلق بالكتالوج الذي يسيرون عليه في تشخيصهم للمشكلة اليمنية وحلها.
فأفكار الكثير من تجار السلام الحاليين، حين منحوا الفرصة ليخططوا لليمن من بعد 2011، تحت أسم الناشطين، هي من ساهمت في انهيار الدولة والحرب. وخلاصة تلك الأفكار تمت ترجمتها في مؤتمر موفمبيك، والذي يسمى زورا مؤتمر الحوار اليمني. ومن تلك الأفكار تفكيك الجمهورية اليمنية وإعادة تركيبها فيما يخدم المشروع الانفصالي، والمشاريع المناطقية، والطائفية.
ولذلك فقد كانت الحركة الحوثية جزءا من تلك الأفكار، وأصبحت المستفيد الأول من مخرجاتها. وقبل الحرب كانت الحركة الحوثية بمثابة الذراع الخشن لأصحاب تلك الأفكار. وعليه، تم دعم الحركة الحوثية من قبل أغلب الناشطين حينها (تجار السلام لاحقا) حيث شكلوا ما يشبه الطابور الخامس والقوة الناعمة للحوثيين حتى اوصلوهم إلى صنعاء.
ورغم أن بعض تجار السلام اختلفوا مع الحوثيين بعد الحرب من الناحية الشكلية، إلا أنهم عمليا يخدمون الحوثيين لإصرارهم على أن يبقوا جزء من التركيبة السياسية لليمن، ومنحهم حق التمثيل للمناطق العليا من اليمن الشمالي سابقا. إلى جانب ذلك؛ يتخذ أغلب تجار السلام مؤقف الداعم أو المتعاطف مع المشروع الانفصالي في الجنوب.
ووفقا لذلك؛ فكل تجار السلام، تقريبا، لا يتجرأون التصريح علنا وفي ورش العمل، بأن الحركة الحوثية حركة دموية عنصرية، يجب هزيمتها وحظرها كما حُظرت النازية. كما أنهم لا يتجرأون أيضا في رفض المشروع الانفصالي. ولهذا فكل صيغ الحل التي يطرحها تجار السلام تتضمن اعتبار الحوثيين والانفصاليين أعمدة أساسية في مستقبل التسوية في اليمن. ولكون الأمر على هذا النحو؛ فإن السلام لن يتحقق في اليمن؛ فالسلام في اليمن لن يتحقق إلا بدولة مركزية قوية تقضي على الحركة العنصرية الحوثية والحركة الانفصالية، وكل الحركات الجهوية التي ساهم مؤتمر موفمبيك في تصعيدها.
والدولة المركزية أصبحت من بعد 2011 شر مستطير وشيطان رجيم، ساهم أغلب تجار السلام الحاليين في شيطنتها، ولا زالت حل مرفوض في ورش عمل تجار السلام. فتجار السلام وداعميهم يرفضون الاستماع إلى أي أفكار تُشخص المشكلة اليمنية، خارج التشخيصات والحلول النمطية التي يروجون لها. ومن ذلك؛ الترويج لصيغة حكم عجيبة، خرج بها مؤتمر موفمبيك، تقوم على محاصصات جهوية وطائفية وجندرية وعمرية، وغيرها.
تجار السلام يساهمون بشكل مباشر أو غير مباشر في استمرار الحرب، والتي يتربحون من بقائها، وهم بذلك ليسوا بأكثر من أمراء حرب ناعمين متنكرين بملابس أنيقة ورطانة لغوية و إقامات فاخرة في فنادق الخمس نجوم