لا تهدف عملية نهب وحصار القطاع الخاص في اليمن إلى جمع أكبر قدر ممكن من الأموال لصالح جماعة الحوثي وحسب، لكن يمكن التأكيد على وجود سياسة ممنهجة لإضعاف الشركات ورجال الأعمال اليمنيين الذين لا ينتمون إلى هذه الجماعة والدفع بهم إلى الإفلاس أو مغادرة اليمن.
برعت الجماعة الحوثية في التضييق على القطاع الخاص وابتزازه ومحاصرته، وهو ما عرّض كثيرًا من المؤسسات التجارية والصناعية والمصرفية للانهيار والإفلاس. في مقابل ذلك برز التسابق إلى إنشاء شركات ومؤسسات تجارية جديدة، لتكون بديلة عن المؤسسات المفلسة أو المغادرة، وتديرها قيادات الجماعة بشكل مباشر أو بواسطة شخصيات تابعة لها.
بعد أسابيع قليلة من سيطرتهم على العاصمة صنعاء، شرع الحوثيون في إلغاء تعاملات المؤسسات الحكومية مع عدد من الشركات الخاصة، من ضمنها قيام ما تسمى باللجنة الثورية العليا التابعة للحوثيين بإلغاء تعاملات تجارية بين وزارة النفط ومجموعة شركات “هائل سعيد أنعم”.(1)
ثم بدأت عمليات الاعتداء الممنهجة على بقية رجال الأعمال والمؤسسات التابعة لهم. ففي ديسمبر/ كانون الأول 2014 تعرض رجل الأعمال توفيق الخامري لاعتداءات متكررة، أبرزها قيام مسلحين باقتحام منزله في صنعاء، والاعتداء عليه، وإطلاق الرصاص على حراسته الخاصة؛ ما أسفر عن مقتل أحدهم وإصابة ثلاثة آخرين، وهو الأمر الذي استنكرته الغرفة التجارية بصنعاء، وصرحت في بيان لها أن “الاعتداء على رجل الأعمال يعني اعتداءً على القطاع الخاص، واستهدافاً لاستقراره، وتهديداً لأمنه. وأوضحت أن هذه الممارسات تنعكس سلباً وبشكل كبير على الأوضاع الاقتصادية، وتؤثر على الاستثمارات كون رجل الأعمال بحاجة إلى بيئة آمنة للاستثمار”.(2)
بطبيعة الحال، لم يأت هذا البيان إلا بعد سلسلة من الاعتداءات والمضايقات التي تعرض لها رجال الأعمال، واستدعاء الحوثيين للعديد منهم، والتحقيق معهم، ورفض إطلاق سراحهم إلا بعد إخضاعهم لتوجهها وسياستها المالية، والتزامهم بتوفير ما يطلب منهم.
وفي 27 ﻓﺒﺮﺍﻳﺮ/ شباط 2015، قررت اللجنة الثورية العليا التابعة للحوثيين منع القطاع الخاص من استيراد عدد من السلع الاستهلاكية، وهي خطوة عدها سياسيون واقتصاديون عاملًا يتسبب في “تدمير القطاع الخاص” في اليمن.(3)
وبالرغم أن القرار في ظاهره تعزيز الاقتصاد الوطني، كونه يمنع الاستيراد ويدعم المنتجات الوطنية بحسب مبررات الحوثيين، لكنه في حقيقة الأمر غير قابل للتطبيق؛ لأن الهدف من ورائه محاصرة القطاع الخاص القائم في البلاد كونه المعني باستيراد المواد الغذائية، والإلكترونيات، ومواد البناء، والسيارات.
تسبب القرار الحوثي بموجة غضب واسعة فهو يحرم اليمنيين من احتياجاتهم الأساسية، ويضر القطاع الخاص والاقتصاد الوطني بشكل عام. وقد علقت الدكتورة ألفت الدبعي عليه، وهي سياسية وناشطة مجتمعية، بقولها: إن “اللجنة الثورية تريد من وراء هذه القرارات تقويض ما بقي من الدولة، عبر تدمير القطاع الخاص”، مضيفة أن هذه القرارات “ليست في صالح المواطنين، وتؤسس لمجموعة من المهربين الجدد والتجار الذين سيقوّون علاقتهم بهؤلاء المهربين”.(4)
أما الاقتصاديون فقد عدوا هذا القرار كارثيًا، وسيتسبب في “إلغاء عضوية اليمن من منظمة التجارة العالمية، وفرض عقوبات اقتصادية، وغرامات، كما ستؤدي إلى خسائر فادحة وكارثية للمستوردين اليمنيين”.(5)
على سبيل المثال لا الحصر، فقد حذر أستاذ الاقتصاد بجامعة عدن، الدكتور محمد حلبوب، من تحويل صنعاء إلى قرية مع توقف الأعمال وحركة التجارة بفعل العزلة الدولية إذا ما استمر الحوثيون في تنفيذ هذا القرار.(6)
بعد أقل من عشرة أيام من إعلان القرار الحوثي، أكدت وزارة الصناعة والتجارة في صنعاء أن الحوثيين تراجعوا عن قرار منع استيراد العديد من السلع الذي كان يستهدف رجال الأعمال الذين لا ينتمون لهم بدرجة أساسية.
وفي 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، أقدم الحوثيون على اغتيال رجل الأعمال السبعيني عبدالسلام الشميري، حيث اقتحمت العناصر الحوثية منزله في محافظة الحديدة، ووصلوا إلى غرفة نومه، وأطلقوا على جسده أكثر من ثلاثين عيارًا ناريًّا، ثم قاموا في نهاية المطاف بسرقة أمواله وعقاراته وأراضيه.
اختبأت الجماعة وراء مبررات وأكاذيب مختلفة لتجعل من سياسة استهداف القطاع الخاص وإخضاعه عملًا قانونيًّا في نظر عامة الناس. ومع استهداف رجال الأعمال والمؤسسات التجارية الخاصة، كانت تعلن عن قائمة من التهم الباطلة لتبرير جريمة سرقة أو ابتزاز أو تهجير أو قتل رجال الأعمال. ومن أمثلة ذلك، أصدرت النيابة العامة الخاضعة لسيطرة الحوثيين، في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، قرارًا يقضي بحجز ممتلكات رجل الأعمال اليمني وتاجر النفط عمار توفيق عبد الرحيم، بعدما اتهمت شركة النفط إحدى شركاته بتهريب سفينة نفطية من ميناء الحديدة(7)، وهو ما نفته الشركة في حينه، ووصفت التهم بـ “الباطلة، وتزيف الحقاق، وتضلل الرأي العام”.(8)
كانت عمليات استهداف القطاع الخاص المباشرة والسريعة لافتة ومثيرة للجدل وتكشف عن نوايا الحوثيين في ابتلاع هذا القطاع الهام، ولهذا اتجهت الجماعة نحو عملية الاستهداف التدريجي والبطيء، واستخدموا طرائق مختلفة، مثل: مضاعفة الضرائب، والزكاة، وفرض الرسوم الجمركية، وفرض الإتاوات والجبايات على الشركات والمشاريع الخاصة تحت لافتات مختلفة، فضلًا عن حرمانهم أو مماطلتهم في إصدار التصاريح لمزاولة أنشطتهم، والتقليل من حصصهم في المشتقات النفطية التي تشغل المؤسسات والمصانع والآلات، وغيرها من الإجراءات التي تؤدي إلى إضعاف نشاطهم، أو انتهائها بالإفلاس، أو في أسوأ الحالات الدفع بهم إلى تهريب جزء من أموالهم واستثماراتهم إلى خارج اليمن.
في المقابل، تقوم الجماعة الحوثية بإعفاء قيادتهم أو تجار محسوبين عليهم من الرسوم المذكورة أعلاه، ومنحهم التصاريح والصلاحيات الكاملة، وإعطائهم كافة التسهيلات الحكومية القانونية وغير القانونية؛ لينجحوا في أنشطتهم التجارية والصناعية ويسيطروا على الأسواق بشكل كامل.
على سبيل المثال لا الحصر ــ وبحسب شهادات من الوسط الصحي ــ فإن وكلاء الأدوية عندما يطلبون تصريحًا بهدف تسجيل أدوية جديدة ليدخلوها السوق اليمني، يماطل الحوثيون في إصدار التصاريح وعندما يصدرونها، تكون لصنف واحد أو اثنين فقط. لكن عندما يتعلق بالشركات والوكلاء الحوثيين، فيحصلون على التصاريح لعشرات الأصناف من الأدوية بلا أي تدقيق أو مراجعة، والهدف هو احتكار سوق الأدوية والسيطرة عليه، وقد نجحوا في ذلك.
وقد هيمن الحوثيون على سوق إعلانات الطرق في المناطق الخاضعة لسيطرتهم في أقل من سنتين من سيطرتهم على العاصمة صنعاء، ووظفوها سياسياً وطائفيًا لصالح الترويج لأفكارهم ومشروعهم المتطرف، وهو ما تسبب في توقف أغلب الشركات الإعلانية المستقلة؛ نتيجة خسارتها وتسريح العاملين فيها. وفي العام 2015 فقط، وصلت خسائر سوق الإعلان حوالي 30 مليون دولار، فضلًا عن خسائر في الأصول والمعدات التي نهبها الحوثيون، إضافة إلى فقدان المالية اليمنية لرسوم سنوية تقدر بـ 40 مليون دولار مقابل تأجير المساحات الإعلانية في العاصمة اليمنية صنعاء وحدها.(9)
في منتصف ديسمبر/كانون الأول 2015، قامت شركة أرجوان للتسويق والإعلان باتهام عناصر حوثية بقيادة إبراهيم يحيى محمد أبو طالب باقتحام مقر الشركة ونهب جميع أصولها، وتقدر قيمتها بأكثر من نصف مليون دولار أمريكي، وهو الأمر الذي أدى إلى توقف عمل الشركة، وألحق الضرر بأكثر من ثلاثين عاملاً فيها يعولون أسرهم(10). وعادة ما يقوم الحوثيون بهذه العملية ليتم بواسطتها تأسيس شركات تعمل في المجال نفسه.
وفي نهاية 2017، كشف القيادي الحوثي طه المتوكل، وهو وزير الصحة في حكومة الحوثيين، عن توجه جماعته الرامي إلى السيطرة على القطاع الخاص تحت لافتة: “إعلان حالة الطوارئ الاقتصادية”، فقال: “في بلدان العالم، في أقل من ظروفنا، تعلن حالة الطوارئ الاقتصادية.. والطوارئ الاقتصادية معناها أن الدولة تقبض بيدها على القطاع الخاص. كل القطاع الخاص، يصبح مؤممًا للدولة. ومن أجل تسيير الشعب ومصالح الشعب، تقبض بيدها على الحثيلي والمفزر والحباري، وغيرهم من التجار الذين يأكلون أموال الناس”(11)(12)، وهذا التصريح لا يحتاج إلى تحليل للكشف عن مرامي الجماعة؛ لكونه واضحًا جليًا وصريحًا.
في مايو/ أيار 2021، سرَّب أحد المواطنين فيديو ظهرت فيه جرافة تابعة لمشرف حوثي قامت بتدمر واحد من أكبر المولات التجارية في العاصمة صنعاء بعد اتهام مالكها بارتكاب مخالفات خارجة عن القانون.
بعد ذلك بأيام، قام القيادي الحوثي سلطان السامعي بزيارة “مول العرب” الذي اعتدى عليه المشرفون الحوثيون بالجرافة، وعلق على الحادثة بقوله: “لم نجد أي مخالفة من قبل المجمع كما يدعي المشرف، وإنما هو ابتزاز وقح، وقد حضر محافظ صنعاء إلى المجمع للاعتذار هذا اليوم، ومعاقبة هؤلاء المجرمين أصبح واجبًا”.(13)
وأمام هذه الممارسات، كانت الغرفة التجارية والصناعية قد حذرت من الاستهداف الممنهج الذي يتعرض له رجال الأعمال، وأكدت بأن ذلك يسبب في إفلاس ومغادرة كثير منهم اليمن. وكان أبرز المواقف الرافضة لهذه السياسة بيان صادر عن الغرفة في 18 ابريل/ نيسان 2021، استنكرت فيه ما وصفته بـ “الإجراءات التعسفية” ضد القطاع الخاص، من قبل جماعة الحوثي ممثلة بـ “الهيئة العامة للزكاة”، إضافة إلى بيانات ومواقف رجال الأعمال تستنكر استحداث مراكز جمركية في مداخل المدن ومضاعفة الإتاوات المختلفة.
كانت أغلب الممارسات التي تستهدف القطاع الخاص تنجز بعيدًا عن التناولات الإعلامية باستثناء بعض القضايا التي ظهرت إلى السطح، وتحولت إلى قضايا رأي عام محلي ودولي، وهو ما دفع الحوثيين إلى احتوائها إعلاميًّا وفق تسويات تلزم التاجر أو رجل الأعمال بالخضوع لمطالبهم في نهاية المطاف.
وقد صادرت الجماعة أملاك وشركات كثير من رجال الأعمال مستخدمة العديد من التهم الملفقة من قبيل “الخيانة والعمالة والارتزاق للخارج”. في 20 يونيو/حزيران 2021، قرر الحوثيون احتجاز أملاك رجل الأعمال اليمني محمد يحيى الحيفي، بعد اتهامه “بالمساس باستقلال الجمهورية اليمنية، وإعانة العدو، والتخابر مع الموساد الصهيوني والاستخبارات الأمريكية” (وثيقة).(14)
وقد ظل محمد الحيفي متواجدًا في اليمن ولم يغادره، لكنه تخفى بعد قيام الحوثيين بملاحقته بسبب رفضه القبول بإجراءات سلبه ممتلكاته. وفي تسجيل مصور نشر بعد أيام من قرار الحوثيين، قال الحيفي مخاطبًا زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي: “تتمثل مظلوميتي في قيام مجموعة من أنصار الله (الحوثيون) على رأسهم صالح جبيش، وأمين جسار، وأبو معاذ النبهاني، باقتحام منزلي، وانتهاك حرماته، بدون وجه أي حق، ولا أي أمر قضائي، وبحجج وافتراءات يفترونها هم.
أولها: يقولون أنه منزل علي محسن الأحمر.
ثانيها: يدعون بأنه كان منزلًا للسفير الأمريكي، وأن الجانب العسكري مسيطر عليه منذ العام 2015، وهذا الكلام كله كذب وافتراء.
ثالثها: مؤخرًا، اتهموني بأني جاسوس وعميل لأمريكا وإسرائيل، ومع العدوان ضد اليمن. وأنا إنسان أحب وطني، ولا يمكن أفرط بشبر من هذا الوطن.. وإذا كنت أنا جاسوس أو عميل، فهل سأبقى في اليمن؟! أنا مشرد في بلدي، أولادي مشردين في كل مكان. البارحة، قبل يومين، سمعنا ادعاءات جديدة، والتي يقولون بأن منزلي مرتعًا للسفارة الأميركية. هذه التهمة الرابعة، وكم يا تهم وافتراءات كاذبة بالشيول (أكاذيب كبيرة). لماذا؟ ليش أعجبهم بيتي يشتوا يشلوه؟ ظلم وبهتان؟ ليش؟ قاموا بتجميد أرصدتي بدون أي وجه حق، وبدون أي أوامر. أنا أطالب بإنصافي.. الآن، آخر تهمة لفقوها، ويدعوها، وغرروًا بها على الكثير من القيادات والمؤسسات، بأن منزلي مرتعًا للسفارة الأمريكية، وأن تحت منزلي ثلاث طوابق تحت الأرض، هي خاصة بالسفارة الأمريكية، ولا يمكن أن يدخلها أحد، وأنها على أرقام سرية وأبواب إلكترونية، وأن في هذه الطوابق الثلاثة المخفية تحت الأرض أجهزة ومعدات.. فإذا ثبتت هذه التهم، فأنا موجود في اليمن، ومالي وبيتي وحلالي ورقبتي فداء للوطن.. انصفوني انصفوني”.(15)
ويعدُّ الحيفي أحد رجال الأعمال المعروفين في اليمن الذين نمت تجارتهم وتوسعت أعمالهم في عصر الدولة، فقد عمل وكيلا لشركة موبايل، وقبل ذلك وكيل شركة يورب كار العالمية، وصاحب شركة خلدون للمقاولات، ومالك فندق سام السياحي الذي يقع في أحد أبرز وأهم شوارع العاصمة صنعاء، إضافة إلى ذلك يملك واحدًا من أشهر القصور في صنعاء. وقد وجه الحوثيون بمصادرة أملاكه؛ لأنه لم يؤيدهم بحسب شهادة الإعلامي اليمني المعروف فخري العرشي.(16)
وللتغطية على ذلك قام الحوثيون بعد أيام قليلة بنشر وثيقة مكتوبة بخط اليد، شكر فيها الحيفي زعيم جماعة الحوثي الذي وجه بتسلم قصره في صنعاء. وبغض النظر عن تفاصيل الصفقة التي انتهت بتسليم قصر الحيفي، إلا أن الحادثة أظهرت كيف يستخدم الحوثيون وسيلة تخوين رجال الأعمال واتهامهم بالخيانة والارتزاق والعمالة لأمريكا وإسرائيل بهدف نهب أموالهم، أو السيطرة على جزء منها، وإخضاعهم لسياستها، وهي الوسيلة نفسها التي يستخدمونها لترهيب وتحليل دماء المخالفين لهم فكريَّا وسياسيًّا، أي: اتهامهم بالعمالة والخيانة للخارج لتبرير قتلهم، أو سجنهم، أو تهجيرهم ومصادرة أملاكهم.
لم تستثن المؤسسات النقدية من هذا الاستهداف الممنهج، يؤكد هذا قيام الحوثيون في 28 يونيو/حزيران 2021 بإصدار توجيه يقضي بالحجز على جميع أموال وأرصدة بنك التضامن الإسلامي في صنعاء وجميع المحافظات الخاضعة لسيطرتهم ضمن سياسة شاملة للاستيلاء إداريًّا، وإعادة هيكلة أهم البنوك في اليمن. ويعد بنك التضامن المملوك لمجموعة هائل سعيد أنعم التجارية، واحدًا من أكبر البنوك التجارية الخاصة البلاد.
وأوضح الخبير الاقتصادي وحيد الفودعي أن الحوثيين انتقلوا “بشكل تدريجي من نهب المال العام والسيطرة على مؤسسات الدولة كلها إلى النهب المنظم لرؤوس الأموال الوطنية، وتدمير القطاع الخاص، وتدمير ممنهج لمنظومة البنوك التجارية والنظام المصرفي في اليمن، وهي سياسات ممنهجة اتخذها الحوثي لسلب ونهب الثروات الوطنية”.
وكشف الفودعي عن الأهداف النهائية لهذه السياسة المالية الحوثية، ومنها “غسل جزء كبير من الأموال الضخمة التي سيطر عليها بالترهيب أو الترغيب، وافتتاح العديد من المشاريع في كافة القطاعات الاقتصادية، أهمها قطاع الصيرفة التي أنشأ فيها شركات برؤوس أموال ضخمة، مهمتها دمج وغسل أموال قادة حوثيين، والسيطرة على سوق الصرف كلاعبين أساسيين باستطاعتهم التأثير بشكل جوهري على سعر الصرف، واستخدام ذلك ورقة يساوم فيها ضد الخصوم على حساب ملايين من الشعب اليمني”.(17)
هذا الأمر أكده سابقًا الخبير الاقتصادي مصطفى نصر؛ إذ أشار إلى أن الحوثيين بدأوا بالاستحواذ على مؤسسات النفط عن طريق تعطيل الشركة الحكومية، وإنشاء شركات تجارية موازية تابعة لنافذين موالين لهم، ثم انتقلوا إلى الاتصالات والبنوك، واصفًا سلسلة الإجراءات والتضييق التي يمارسها الحوثيون على شركات الاتصالات والبنوك، بـ “السياسة الممنهجة للاستحواذ على كافة الموارد الاقتصادية، لا سيما القطاعات ذات العائدات المالية الكبيرة”.(18)
ويلاحظ أن أغلب الاقتصاديين، في بداية الأمر، كانوا يستخدمون عبارات من قبيل” الحوثيون يعملون على إنشاء شركات تجارية موازية”، أو “اقتصاد مواز”، أو ” قطاع خاص مواز”، لكن الأحداث أكدت بأن الحوثيين كانوا يدمِّرون الاقتصاد السابق، وينشئون اقتصادًا بديلًا، وليس مجرد اقتصاد موازي؛ لأنهم سيطروا على المؤسسات الاقتصادية الحكومية والخاصة. ومن بقي من رجال الأعمال فيعمل ضمن سياستهم بشكل كامل، بل إن قيادات الحوثي دخلت في شراكة مباشرة مع التجار ورجال الأعمال، ومن يرفض فمصيره الإفلاس، وإن كان محظوظًا فسوف ينجح في تهريب جزء من أمواله إلى الخارج. وهذا الأسلوب في السيطرة على الاقتصاد العام والخاص ذاته يستخدمه النظام الخميني في إيران.
وصف رئيس تحرير مجلة الاقتصاد الآن، محمد الحكيمي، هذا الوضع الجديد الذي تشكَّل في سنوات ما بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء، بقوله: “هناك المئات من أصحاب الأعمال والتجار اليمنيين أفلسوا وأنهوا تجارتهم نتيجة الحرب، كما غادر آخرون اليمن، وتركوا أعمالهم عرضة لابتزاز الميليشيا، وفي مقابل ذلك صعد التجار الحوثيون من العدم، باستثمارات تتوزع أنشطتها بين شركات صرافة جديدة فتحت في صنعاء، ومحطات كهرباء خاصة بمولدات عملاقة، ومحطات للغاز تعمل بلا تراخيص”، وأن ظهور هذه الطبقة الجديدة من أثرياء الحرب، تسبب في انهيار أهم طبقة اجتماعية ساهمت في الاستقرار الاجتماعي للبلاد، وانهيار الطبقة الوسطى “التي تضم فئة الموظفين والموظفات الذين باتوا فقراء وهم دون مرتبات”.(19)
ويمكن القول إن الحوثيين كوّنوا جيلًا جديدًا من رجال الأعمال التابعين لهم، ممن جمعوا ثروات طائلة من موارد الدولة وممتلكات خصومهم المنهوبة والاحتياطات النقدية في البنك المركزي، فضلًا عن عائدات الأسواق السوداء التي أنشأوها. وقد قدرت عدد الشركات الجديدة التي أنشأها الحوثيون في أقل من أربع سنوات، بـ1250 شركة ومؤسسة تجارية واستثمارية، منها شركات تعمل في الخدمات النفطية، والاستيراد والتصدير، والمقاولات العامة، والصرافة، وتحويل الأموال، ومؤسسات تقدم خدمات التعليم، والصحة، وغيرها، حيث أسندت إدارة هذه الشركات إلى قيادات حوثية أو شخصيات مقرَّبة منها بهدف التمويه.(20)
هذا الوضع الطارد والمنهك كانت نتيجته أن عددًا كبيرًا من رجال الأعمال وجدوا أنفسهم مضطرون إلى الهروب الكلي أو الجزئي برؤوس أموالهم إلى خارج اليمن، أو الدخول في شراكة مع قيادات حوثية، ومنحهم جزءًا من الأرباح مقابل الحماية وتقديم التسهيلات، أو محاولة التعايش مع ممارسات الحوثيين على أمل عودة الدولة ومؤسساتها.
لقد حرص الحوثين على حصر التجارة في فئة تابعة لها سلوك إمامي قديم، مارسه أجداد الحوثيين بشكل واسع، فقد صادر الإمام يحيى بن حميد الدين تجارة كثير من تجار اليمن، وشاركَ بعضهم تجارتَهم بلا وجه حق، “مُعينًا عليهم عُمَّاًلا من ذويه ومن حَاشِيته، يمارسون ـ بدورهم ـ نهبًا وسَطوًا لا يقل وحشية عن نهب وسَطوة الإمَام نفسه”.(21)
وبينت المؤرخة والكاتبة الروسية إيلينا جولوبوفسكايا، المعاناة التي عاشها تجار اليمن أثناء حكم الإمام أحمد، ومن ذلك ما جاء في كتابها (ثورة 26 سبتمبر في اليمن): “وقاسَ التُّجار اليمنيون ـ باستثناء مَجموعة صغيرة مقربةٍ من الإمَام ـ من الظلم الملكي الإقطاعي الذي أناخ عليهم، وزُوحم متوسِّطو وصغار التجار في أكثر الصَّفقات التجارية المُربحة. كما احتكر الإمَامُ والمحيطون به الفروع المربحة في التجارة الخارجيَّة، مع الاحتفاظ التقليدي الاصْطناعي بأشْكال الأنماط الاقتصاديَّة. إنَّ كلَّ هَذا قلَّص مَجَال نشاط البرجوازية الناشِئة، وكان لغياب الضَّمانات والحريات الشَّخْصِيَّةِ والممتلكات للتجار أن شَدَّد الصُّعوبات، وحال دون نمو التجارة الخارجيَّة، وأدى هَذا إلى أن يتجه كبار التجار إلى أن يضعوا رؤوس أمْوالهم في بنوك الخارج، وإن تسربت رسَاميل في بعض الحالات المحصورة في حدود ضَيقة إلى التراكم الداخلي، مما ضَاعف بشكل أكبر نقص المواد اللازمة لنمو البلد الاقتصَادي؛ إذ إنَّ التجار لم يرسلوا النقود إلى الخارج فقط؛ بل إن أغلبَهم تركوا البلاد، وذهبوا إلى الخارج في هجرات طويلة. وفي المهجر اشتركوا بالنشاط التجاري، ولم يَعدْ منهم إلى الوَطَنِ إلا القليلُ عند الشَّيخُوخة”.(22)
والوضع نفسه يطبقه الحوثيون اليوم، فلهم رجال أعمال يتبعونهم يتحكمون بتجارة السلع الأساسية وتوزيعها على اليمنيين، وهي تجارة تدر أموالًا طائلة، مثل: المشتقات النفطية، والقمح في هذه المرحلة. وكان للإمام أحمد تجار معدودون يعملون لصالحه، أو بالشراكة معه في تجارة أهم السلع في تلك المرحلة، وهي: البن، والقطن، والسكر. ومن أولئك التجار أحمد علي الوجيه، ومحمد الجبلي، والشيخ الزجاجي(23)، فهؤلاء أبرز التجار في البلاد حينها، وينتمون إلى الفئة المجتمعية التي ينتمي إليها الإمام أحمد، أو كما كانت تصفها المؤرخة الروسية إيلينا جولوبوفسكايا بفئة “السادة”. وتواصل إيلينا جولوبوفسكايا شهادتها التاريخية بالقول: “ركزت البرجوازية التجارية من طغمة “السادة” في يدها البضائع الأساسية المخصصة للتصدير کالبن والقطن، واستحوذت على القسم الأعظم من تجارة الجملة وأهم تجارة الاستيراد حيث قاموا بتمثيل حقوق شركائهم الجدد من أفراد العائلة المالكة، وقدمت لهم حكومة الإمام مختلف التسهيلات، وأعفتهم بالذات من دفع الرسوم الجمركية الداخلية. وكقاعدة وفرت جمارك الإمام الالتزامات الكبار التجار أو الموظفين، وسمحت لهم بجمع الضرائب بحرية كاملة، وبإرسال قسم محدود من الرسوم المجمعة إلى خزينة الإمام. ولم يكن هؤلاء الملتزمون يعملون دون رقابة فقط، بل إنهم أقروا وأخذوا رسومًا من التجار القادمين، واستطاعوا حتى إنزال العقوبات القاسية بهم، والزج بهم في السجون”.(24)
وترى الكاتبة أن هذه السياسة الإمامية أعاقت تطور الرأس المال التجاري بشكل عام في اليمن، بصرف النظر عن تقديم أفضليات معينة للتجار من قبل الإمام، “حيث بدأ بين أوساط التجار تباین وتمایز مادي واجتماعي. فالبرجوازية الكبيرة التي تنتمي إما إلى الأسر الأرستقراطية من السادة أو حتى الأشخاص الذين لهم صلات بالأسرة الحاكمة، جمعت في يدها السلطة الاقتصادية والسياسية، بينما لم يمتلك مثل هذه الامتيازات الاقتصادية والسياسية عدد كبير من متوسطي وصغار التجار”.(25)